هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ابي بكر الصديق رضى الله عنه
لما علم كفار قريش ان رسول الله صلى عليه وسلم صارت له شيعة وانصار من
غيرهم، وراوا مهاجرة اصحابه الى اولئك الانصار الذين بايعوه على المدافعة عنه حتى الموت، اجتمع
رؤساهم وكبارهم في دار الندوة، وهي دار بناها قصي بن كلاب، كانوا يجتمعون فيها عند
ما ينزل بهم حادث مهم، اجتمعوا ليتشاوروا فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فقال قائل منهم: نحبسه مكبلا بالحديد حتى يموت، وقال اخر: نخرجه وننفيه من بلادنا، فقال
احد كبرائهم: ما هذا ولا ذاك براي؛ لانه ان حبس ظهر خبره فياتي اصحابه وينتزعونه
من بين ايديكم، وان نفي لم تامنوا ان يتغلب على من يحل بحيهم من العرب؛
بحسن حديثه وحلاوة منطقه حتى يتبعوه فيسير بهم اليكم، فقال الطاغية ابو جهل: الراي ان
نختار من كل قبيلة فتى جلدا ثم يضربه اولئك الفتيان ضربة رجل واحد؛ فيتفرق دمه
في القبائل جميعا؛ فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل.
فاعجبهم هذا الراي واتفقوا جميعا وعينوا الفتيان والليلة التي ارادوا تنفيذ هذا الامر في سحرها،
فاعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بما اجمع عليه اعداؤه، واذنه سبحانه وتعالى
بالهجرة الى يثرب (المدينة المنورة)، فذهب الى ابي بكر الصديق رضى الله عنه واخبره واذن
له ان يصحبه، واتفقا على اعداد الراحلتين اللتين هياهما ابو بكر الصديق لذلك، واختارا دليلا
يسلك بهما اقرب الطرق، وتواعدا على ان يبتدئا السير في الليلة التي اتفقت قريش عليها.
وفي تلك الليلة امر عليه الصلاة والسلام ابن عمه على ابن ابي طالب ان ينام
في مكانه ويتغطى بغطائه حتى لا يشعر احد بمبارحته بيته. ثم خرج صلى الله عليه
وسلم، وفتيان قريش متجمهرون على باب بيته وهو يتلو سورة (يس)، فلم يكد يصل اليهم
حتى بلغ قوله تعالى: (فاغشيناهم فهم لا يبصرون)، فجعل يكررها حتى القى الله تعالى عليهم
النوم وعميت ابصارهم فلم يبصروه ولم يشعروا به، وتوجه الى دار ابي بكر وخرجا معا
من خوخة في ظهر البيت، وتوجها الى جبل ثور باسفل مكة فدخلا في غاره.
واصبحت فتيان قريش تنتظر خروجه صلى الله عليه وسلم، فلما تبين لقريش ان فتيانهم انما
باتوا يحرسون على بن ابي طالب لا محمدا صلى الله عليه وسلم هاجت عواطفهم، وارتبكوا
في امرهم، ثم ارسلوا رسلهم في طلبه والبحث عنه من جميع الجهات، وجعلوا لمن ياتيهم
به مائة ناقة، فذهبت رسلهم تقتفي اثره، وقد وصل بعضهم الى ذلك الغار الصغير الذي
لو التفت فيه قليلا لراى من فيه.
فحزن ابو بكر الصديق رضى الله عنه لظنه انهم قد ادركوهما، فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: (لاتحزن ان الله معنا)، فصرف الله تعالى ابصار هؤلاء القوم وبصائرهم حتى
لم يلتفت الى داخل ذلك الغار احد منهم، بل جزم طاغيتهم امية بن خلف بانه
لا يمكن اختفاؤهما به لما راوه من نسج العنكبوت وتعشيش الحمام على بابه.
وقد اقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالغار ثلاث ليال حتى ينقطع طلب
القوم عنهما، وكان يبيت عندهما عبد الله بن ابي بكر ثم يصبح في القوم ويستمع
منهم الاخبار عن رسول الله وصاحبه فياتيهما كل ليلة بما سمع، وكانت اسماء بنت ابي
بكر تاتيهما بالطعام في كل ليلة من هذه الليالي، وقد امر عبد الله بن ابي
بكر غلامه بان يرعى الغنم وياتى بها الى ذلك الغار ليختفي اثره واثر اسماء.
وفي صبيحة الليلة الثالثة من مبيت رسول الله عليه وسلم وصاحبه بالغار، وهي صبيحة يوم
الاثنين في الاسبوع الاول من ربيع الاول سنة الهجرة (وهي سنة ثلاث وخمسين من مولده
صلى الله عليه وسلم، وسنة ثلاث عشرة من البعثة المحمدية) جاءهما بالراحلتين عامر بن فهيرة
مولى ابي بكر؛ وعبد الله بن اريقط الذي استاجراه ليدلهما على الطريق، فركبا واردف ابو
بكر عامر بن فهيرة ليخدمهما، وسلك بهما الدليل اسفل مكة، ثم مضى بهما في طريق
الساحل.
وبينما هم في الطريق اذ لحقهم سراقة بن مالك المدلجى؛ لانه سمع في احد مجالس
قريش قائلا يقول: اني رايت اسودة بالساحل اظنها محمدا واصحابه. فلما قرب منهم عثرت فرسه
حتى سقط عنها، ثم ركبها وسار حتى سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهو
لايلتفت وابوبكر يكثر الالتفات، فساخت قوائم فرس سراقة في الارض فسقط عنها، ولم تنهض الا
بعد ان استغاث صاحبها بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد شاهد غبارا يتصاعد كالدخان من
اثار خروج قوائم فرسه من الارض، فداخله رعب شديد ونادى بطلب الامان، فوقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومن معه حتى جاءهم وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يقبلا منه
شيئا؛ وانما قالا له: اكتم عنا، فسالهم كتاب امن؛ فكتب له ابو بكر ما طلب
بامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد سراقة من حيث اتى كاتما ما راى،
وقد اخبر ابا جهل فيما بعد، وقد اسلم سراقة يوم فتح مكة وحسن اسلامه.
واستمر رسول الله وصاحبه في طريقهما حتى وصلا قباء، من ضواحي المدينة، في يوم الاثنين
من ربيع الاول، فنزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني عمرو بن
عوف ونزل ابو بكر رضى الله عنه بالسنح (محلة بالمدينة ايضا) على خارجة بن زيد،
ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ليالى؛ انشا فيها مسجدا، هو الموصوف في
القران الكريم بانه اسس على التقوى من اول يوم، وصلى فيه عليه الصلاة والسلام بمن
معه من المهاجرين والانصار، وقد ادركه صلى الله عليه وسلم بقباء على بن ابي طالب
رضى الله عنه بعد ان اقام بمكة بعده بضعة ايام ليؤدى ما كان عنده من
الودائع الى اربابها.
،،،،،،،،،