بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم
بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد:
فإننا اخترنا أن تكون افتتاحية هذا العدد من هذه المجلة (1) المباركة النافعة حول شهر
رمضان ، فضله وبعض ما يشرع فيه من العبادات . فإن الله سبحانه وتعالى قد
من علينا بهذا الشهر الكريم المبارك ، زمن فاضل خصه الله بمزيد من الخصائص من
بين سائر الشهور ، فهو الشهر الذي أنزل فيه القرآن كتاب الله العظيم يقول الله
عز وجل: ﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان
﴾ [سورة البقرة /185] في هذا الشهر تفتح أبواب الرحمة ، وتغلق أبواب النيران وتصفد
الشياطين ، فتكون النفوس المؤمنة مقبلة على طاعة ربها ، معرضة عن معاصيه ، يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم
وسلسلت الشياطين )) رواه الجماعة إلا أبا داود بألفاظ متقاربة عن أبي هريرة رضي الله
عنه .
وجاء عند بعضهم عن غيره ، وزاد الترمذي وابن ماجه والنسائي في رواية: (( وينادي مناد:
يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك
كل ليلة )) (2) وفي بعض الروايات (( تقييد التصفيد والغل بمردة الشياطين )) ؛
فاختلفت أنظار العلماء في شرحه وبيانه فمنهم من قال:
إن التصفيد خاص بمردة الشياطين دون غيرهم تقليلا للشر في هذا الشهر ،
وقال بعضهم: إن هذا الفضل إنما يحصل للصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه ، وروعيت
آدابه .
وقال آخرون -وهو الأقرب إلى الصواب بإذن الله-: إن تصفيد الشياطين على حقيقته ، ولا
يلزم من تصفيد جميع الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية ؛ لأن لذلك أسبابا
غير الشياطين ، كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة ، والشياطين الإنسية ، فالمقصود أنه وبكل حال
فإن هذا الشهر فرصة لمن وفقه الله وفتح على قلبه للإقبال على طاعته ، والبعد
عن معاصيه لتوفر أسباب ذلك ودواعيه . ويستفاد من هذا الحديث بزياداته فضيلة أخرى ،
وهي أن لله في هذا الشهر عتقاء من النار وذلك كل ليلة . وفضائل هذا
الشهر الكريم كثيرة عظيمة ذكرنا فيما مضى طرفا منها .
ودخول هذا الشهر الكريم لا يثبت إلا بأحد أمرين:
الأول : رؤية هلال رمضان . فيثبت الشهر بذلك بإجماع المسلمين ؛ لقول الله تعالى:
﴿ فمن شهد منكم الشهر فليصمه ﴾ [سورة البقرة /185] وفي حديث ابن
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا رأيتموه
فصوموا ، وإذا رأيتموه فأفطروا )) متفق عليه .
ويكفي في ثبوت الرؤية إخبار عدل واحد من المسلمين برؤيته له ، على الصحيح ،
لقول ابن عمر رضي الله عنهما: (( تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله صلى
الله عليه وسلم أني رأيته ، فصام ، وأمر الناس بصيامه )) رواه أبو داود
والدارمي وابن حبان والحاكم والبيهقي ، وصححه ابن حزم .
وفي حديث ابن عباس قال: (( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
إني رأيت الهلال- يعني رمضان- فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم .
قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم . قال: يا بلال أذن في الناس
فليصوموا غدا )) رواه أصحاب السنن .
الأمر الآخر: الذي يثبت به دخول شهر رمضان ؛ إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما ،
فإنه إذا لم ير الهلال أكملت عدة شعبان ثلاثين يوما ، سواء كان الجو صحوا
أو غائما أو قترا ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( الشهر تسع وعشرون
ليلة ، فلا تصوموا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) متفق
عليه واللفظ للبخاري ، وفي معناه أحاديث أخرى في الكتب الستة وغيرها . ومن رأى
الهلال فردت شهادته فإنه لا يصوم إلا يوم صوم الناس ؛ لقول النبي صلى الله
عليه وسلم: (( الصوم يوم تصومون ))أخرجه الترمذي .
ولا يثبت دخول الشهر بغير هذين الأمرين ، فلا عبرة بقول أهل الحساب والفلك في
هذا الأمر ، فإنه أمر شرعي ينبني عليه عبادات المسلمين ضبطها الشارع بضوابط لا يجوز
لنا تجاوزها ، وقد دلت الأدلة على أن ثبوت شهر رمضان لا يكون إلا بالرؤية
الشرعية المعتبرة ، أو بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوما .
ولم يأت دليل يعلق دخول هذا الشهر بالحساب ، بل قد صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم ما يدل على عدم اعتباره ، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إنا أمة أمية
لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا )) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين
. فنفى المعرفة بالحساب وظاهره نفي تعليق الحكم به ، يوضح ذلك ما في البخاري
أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( فإن غبي عليكم فأكملوا عدة
شعبان ثلاثين )) .