مواضيع للرجال للنساء

تعامل الرسول مع الناس

تعامل الرسول مع الناس 20160820 4270 1

كيف تعامل الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع الناس؟
(مواقف عملية)

تعامل الرسول مع الناس 20160820 4270

مقدمة

والصلاة والسلام على خير الخلق، رسول الانسانية، من بعثه الله بالحق هاديا ومرشدا ومعلما.
اما بعد:
فيقول الله في كتابه الكريم: {لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان
يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيرا} [الاحزاب: 21].
فالرسول الخاتم هو المثال والقدوة التي وجهنا القران الى اتباعها والسير على خطاها؛ كي ننال
فلاح الدنيا والاخرة، ونحن نقرا في اي القران: {وما ارسلناك الا رحمة للعالمين} [الانبياء: 107].

اي: انه بعث للبشرية كلها؛ رجالا ونساء، اطفالا وشيوخا، مؤمنين وكافرين، ارسله الله دليلا يدل
الناس على الطريق، ورائدا يقود اتباعه الى الخير والى السعادة والرضوان.
وجاءت سيرته وافعاله كلها دليلا عمليا يعلم الناس كيف يعيشون وكيف يتعاونون، كيف يختلفون وكيف
يتحاورون، بل كيف يحاربون وكيف يسالمون.
وانها لمنة كبرى من الخالق العظيم ان تكون لدينا تلك المدرسة النورانية او الجامعة الكبرى،
التي تخرج فيها من قبل جيل الصحابة الاولين، بينما العالم الذي يدعي التحضر لم يبدا
الحديث عن الانسان وتنميته وعلاقته بالاخرين الا حديثا!
وعلى رغم ذلك، فقد ادعوا انهم مؤسسو علم جديد يعنى بالتنمية البشرية ونجاح الانسان في
حياته؛ وللاسف كما اعتاد المسلمون ان يستوردوا كل شيء، فقد استوردوا ذلك العلم المزعوم، ونسوا
ان لديهم كنزا ما عرفت البشرية مثله، ولو عرفوا قيمته، لهرعوا ينهلون وياخذون بقسطهم منه.

اننا لو تتبعنا هدي الرسول الكريم في التعامل مع الناس، ومنهجه في تربية اصحابه الكرام
– لادركنا اننا نحمل للبشرية خيرا عميما، ينقذها من كل الامها وعذاباتها، ويقدم لها سعادتها
الكبرى التي تبتغيها.
فهلم يا كل البشر، ويا كل محبي الانسانية، ويا من تبحثون عن سعادة الانسان ورضا
قلبه، يا من تتحدثون عن حضارة انسانية وتعايش سلمي، يا من ترجون للعالم امنا، وللنفوس
اتزانا، وللارواح سلاما، تعالوا الى مدرسة النبوة الخالدة نستجل بعضا من مواقف الحبيب، وصورا من
تعامله مع اصناف الناس، كيف احبهم؟ وكيف اسعدهم؟ حتى كان احب اليهم من نفوسهم التي
بين جنوبهم.
هلم الى تلك الروضة الغناء؛ لعل نفوسنا العصية على التغيير تحاول القرب من الحبيب، فتكون
اطيب وارقى وتقتدي بخير خلق الله.
الفصل الاول
مراعاة الطبيعة البشرية
خلق الله الانسان مميزا بصفات وطبائع عدة، وفطره على امور يعرف بها؛ كحبه للمال، وتعجله
للخير، وحاجته للحب والاهتمام والتشجيع، وغير ذلك مما يعرفه علماء النفس، ويتحدث به اصحاب التنمية
البشرية اليوم.
اما مدرستنا النبوية، فقد علمت ذلك منذ زمن بعيد، وتعاملت مع ذلك الانسان تعاملا راقيا؛
فصار بعدها ذلك الانسان السماوي الذي اقام الحضارة، وعلم الدنيا، ونفع الناس جميعا!
والان لنا ان ناخذ بعض المواقف – لاننا لا نملك ان نحصي المواقف العطرة كلها
– كي نضعها انموذجا ومثالا نسير عليه، ونهديه لاجيالنا؛ كي يترقوا ويسلكوا الطريق الى السعادة،
والى رضوان الله، ولقد راينا في تلك المواقف صورا رائعة من مراعاة طبيعة البشر من
نواح عدة:
ابداء الاهتمام:
كان رسولنا – صلى الله عليه وسلم – يظهر اهتمامه بكل فرد على حدة، وكان
لذلك قيمته الكبرى في المجتمع المسلم؛ اذ يشعر الفرد حينذاك باهميته وبما يملك من طاقات؛
فيسعى لخدمة دينه واهله ومجتمعه، فها هو زاهر الذي يروي لنا انس – رضي الله
عنه – حديث رسول الله معه وكيف رفع قيمته، وعرفه قدره عند الله.
عن انس: ان رجلا من اهل البادية كان اسمه زاهرا يهدي النبي – صلى الله
عليه وسلم – الهدية من البادية، فيجهزه النبي – صلى الله عليه وسلم – اذا
اراد ان يخرج، فقال رسول الله: ((ان زاهرا باديتنا ونحن حاضروه))، وكان رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – يحبه وكان رجلا دميما، فاتاه رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه ولا يبصره الرجل، فقال: ارسلني، من
هذا؟ فالتفت فعرف النبي – صلى الله عليه وسلم – فجعل لا يالو ما الصق
ظهره بصدر النبي – صلى الله عليه وسلم – حين عرفه، وجعل رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – يقول: ((من يشتري العبد؟))، فقال: يا رسول الله، اذن والله
تجدني كاسدا، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لكن عند الله لست
بكاسد – او قال: – لكن عند الله انت غال)) .
كان – صلى الله عليه وسلم – يعامل كل احد يلقاه بمهارات؛ من احتفاء، وتفاعل،
وبشاشة؛ حتى يشعر ذلك الشخص انه احب الناس اليه، وبالتالي يكون هو ايضا احب الناس
اليهم؛ لانه اشعرهم بمحبته.
وها هنا موقف اخر نرى فيه كيف يهتم الرسول باصحابه؛ حتى يظن الواحد منهم انه
احب الناس اليه:
كان عمرو بن العاص – رضي الله عنه – داهية من دهاة العرب؛ حكمة وفطنة
وذكاء، فادهى العرب اربعة: عمرو واحد منهم، اسلم عمرو وكان راسا في قومه، فكان اذا
لقي النبي – صلى الله عليه وسلم – في طريق راى البشاشة والبشر والمؤانسة، واذا
دخل مجلسا فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – راى الاحتفاء والسعادة بمقدمه، واذا
دعاه النبي – صلى الله عليه وسلم – ناداه باحب الاسماء اليه.
شعر عمرو بهذا التعامل الراقي ودوام الاهتمام والتبسم – انه احب الناس الى رسول الله،
فاراد ان يقطع الشك باليقين، فاقبل يوما الى النبي – صلى الله عليه وسلم –
وجلس اليه، ثم قال: يا رسول الله، اي الناس احب اليك؟ فقال – صلى الله
عليه وسلم -: ((عائشة))، قال عمرو: لا، من الرجال يا رسول الله؟ لست اسالك عن
اهلك، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((ابوها))، قال عمرو: ثم من؟ قال: ((ثم
عمر بن الخطاب))، قال: ثم اي؟ فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم – يعدد
رجالا، يقول: فلان، ثم فلان بحسب سبقهم الى الاسلام، وتضحيتهم من اجله، قال عمرو: فسكت؛
مخافة ان يجعلني في اخرهم، فانظر كيف استطاع – صلى الله عليه وسلم – ان
يملك قلب عمرو بمهارات اخلاقية مارسها معه .
تقديم النصح في صورة طيبة:
نادرا ما تجد انسانا يقبل ان تسدد اليه نصحا، او تصحح له خطا، وقد كان
رسول الانسانية العظيم يعلم ان افضل الطرق لقبول النصيحة ووضعها موضع التنفيذ – هي ان
تقدم في صورة طيبة وبكلمات تقبلها النفس؛ مع ان خير البشر لو اراد لقال نصحه
على اي وجه؛ فهو يعلم ان اصحابه يقدمونه على انفسهم، وان ما يدلهم عليه احب
اليهم مما يحبون، لكنه يقدم لنا الاسوة والقدوة؛ فها هو – صلى الله عليه وسلم
– يدعو عبدالله بن عمر لقيام الليل، فلا يقول كما يقول بعض الشيوخ: ان التاركين
لصلاة الليل خاسرون وفاسقون – فربما كان المعنى صحيحا، ولكن اسلوب الكلام لا يدعو احدا
الى قبول النصيحة والعمل بها – بل يقول في حب: ((نعم العبد عبدالله بن عمر
لو كان يقوم من الليل))، قال سالم بن عبدالله بن عمر: فكان عبدالله بعد ذلك
لا ينام من الليل الا قليلا.
تقدير الطاقات والمواهب:
من خلال تشجيع المحسن والثناء عليه؛ ليزداد نشاطا واقبالا على العلم والعمل، مثلما فعل مع
ابي موسى الاشعري حين اثنى على قراءته وحسن صوته بالقران الكريم؛ فعن ابي موسى –
رضي الله عنه – ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال له: ((لو
رايتني وانا استمع لقراءتك البارحة، لقد اوتيت مزمارا من مزامير ال دواد)) ( ).
وقد قدر رسول الكريم شاعرية حسان بن ثابت فلم ياخذ عليه او يدعه الى ترك
قول الشعر والالتفات الى الجهاد بالنفس او تعلم القران، بل علمنا ان الاسلام يحتاج الى
كل الطاقات، ويقدر جميع المواهب، فجعل حسان فارسا من فرسان دعوة الاسلام يذود عنها بشعره
ولسانه، ويهجو شعراء المشركين، فيمدحه رسول الله قائلا: ((اهجهم وروح القدس معك)).
البحث عن منافذ الخير:
لان رسولنا الحبيب كان يعرف معادن الناس؛ فقد كان احرص الناس على دعوة من يتوسم
فيهم الصلاح والخير، حتى وان بدوا اعداء كارهين لدعوة الاسلام؛ لذا فقد قال النبي الملهم
من السماء: ((الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام اذا فقهوا)( )؛ ولذا نراه
– صلى الله عليه وسلم – يامل في اسلام بعض الفضلاء الذين حاربوا الاسلام في
بدايته، وقادوا ضده المعارك، ومن هؤلاء كان القائد المميز الذي صار يضرب باسم الله بعد
ذلك خالد بن الوليد!
فماذا قال عنه رسول الله؛ حتى يفتح قلبه وعقله للاسلام بعدما ادرك ان فيه منافذ
خير تؤهله ان يكون قائدا من جنود الاسلام العظام؟ مقالة وصلت الى مسامع خالد، فاحدثت
اثرا في قلبه الذي كتب الله له الهداية: ((اومثل خالد يتوه عن الاسلام؟!)).
ولنستمع الان الى خالد نفسه يقص علينا خبر اسلامه، وكيف وقع في قلبه كلام رسول
الله عنه!
“كان اخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي – صلى الله عليه وسلم –
في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني، فكتب الي كتابا، فاذا فيه: ، اما بعد، فاني
لم ار اعجب من ذهاب رايك عن الاسلام، وعقلك عقلك، ومثل الاسلام جهله احد؟ وقد
سالني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عنك فقال: اين خالد؟ فقلت: ياتي
الله به؟ فقال: ما مثله جهل الاسلام، ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على
المشركين، لكان خيرا له، ولقدمناه على غيره، فاستدرك يا اخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن
صالحة.
قال: فلما جاءني كتابه، نشطت للخروج، وزادني رغبة في الاسلام، وسرني مقالة رسول الله، قال
خالد: وارى في النوم كاني في بلاد ضيقة جديبة، فخرجت الى بلد اخضر واسع، فقلت:
ان هذه لرؤيا، فلما قدمت المدينة قلت: لاذكرنها لابي بكر، قال: فذكرتها، فقال: هو مخرجك
الذي هداك الله للاسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك، فلما اجمعت للخروج الى رسول
الله، قلت: من اصاحب الى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن امية فقلت: يا ابا وهب،
اما ترى ما نحن فيه؟ انما نحن اكلة راس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم،
فلو قدمنا على محمد فاتبعناه؛ فان شرف محمد على العرب، فابى اشد الاباء، وقال: لو
لم يبق غيري من قريش ما اتبعته ابدا، فافترقنا، وقلت: هذا رجل موتور يطلب وترا،
قد قتل ابوه واخوه ببدر، فلقيت عكرمة بن ابي جهل فقلت له مثل الذي قلت
لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاكتم علي، قال: لا اذكره، فخرجت الى
منزلي، فامرت براحلتي، فخرجت بها الى ان لقيت عثمان بن طلحة، فقلت: ان هذا لي
صديق، فلو ذكرت له ما ارجو، ثم ذكرت من قتل من ابائه، فكرهت اذكره، ثم
قلت: وما علي واني راحل من ساعتي، فذكرت له ما صار الامر اليه، فقلت: انما
نحن بمنزلة ثعلب في جحر، لو صب عليه ذنوب من ماء لخرج، قال: وقلت له
نحو ما قلت لصاحبيه، فاسرع في الاجابة، وقال: لقد غدوت اليوم وانا اريد ان اغدو،
وهذه راحلتي بفخ مناخة، قال: فاتعدت انا وهو بياجج، ان سبقني اقام، وان سبقته اقمت
عليه، قال: فادلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بياجج، فغدونا حتى انتهينا الى الهدة،
فنجد عمرو بن العاص بها، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبك، قال: مسيركم؟ قلنا: ما اخرجك؟
قال: فما الذي اخرجكم؟ قلنا: الدخول في الاسلام واتباع محمد – صلى الله عليه وسلم
– قال: وذلك الذي اقدمني.
قال: فاصطحبنا جميعا حتى قدمنا المدينة فانخنا بظاهر الحرة ركابنا، فاخبر بنا رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت الى رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – فلقيني اخي فقال: اسرع؛ فان رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – قد اخبر بك فسر بقدومك، وهو ينتظركم، فاسرعت المشي فطلعت
عليه، فما زال يتبسم الي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة، فرد علي السلام بوجه
طلق، فقلت: اني اشهد ان لا اله الا الله، وانك رسول الله، فقال: ((الحمد لله
الذي هداك، قد كنت ارى لك عقلا، رجوت الا يسلمك الا الى خير))، قلت: يا
رسول الله، قد رايت ما كنت اشهد من تلك المواطن عليك معاندا عن الحق، فادع
الله ان يغفرها لي، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((الاسلام يجب
ما كان قبله))، قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: ((اللهم اغفر لخالد كل ما
اوضع فيه من صد عن سبيلك))، قال خالد: وتقدم عمرو وعثمان فبايعا رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – من يوم اسلمت يعدل بى احدا من اصحابه
فيما حزبه”( ).
لا يترك مدخلا للشيطان:
وهب الله رسول الاسلام العظيم من المواهب، ورزقه من المهارات – ما يعينه على تبليغ
الدعوة وتربية اصحابه والامة من بعده؛ ولذلك كان طبيعيا ان يلتفت الى الطبيعة البشرية التي
يجري منها الشيطان مجرى الدم في العروق، فيعلمنا الا نترك فرصة ولا مدخلا يدخل من
خلاله الشيطان، فيوسوس للنفس، ويلقي اليها بالظنون، ويثقل كاهلها بالشك البغيض، ومع انه رسول الله،
ومع انه المعصوم من الرذائل والفتن، نجده في ذلك الموقف يضع لنا قاعدة في التعامل
مع الشائعات او الظنون، وهو الا نترك لها مدخلا للشيطان، والا نستثير ظنون الاخرين وشكوكهم
فينا، فنوضح ما خفي للناس، ونبين لهم ما غاب عنهم.
انها صفية!
تروي صفية – رضي الله عنها -: انها جاءت الى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – ليلا تزوره – وهو معتكف في المسجد – فحدثته، قالت: ثم قمت
فقام معي – وكان مسكنها في دار اسامة بن زيد – فمر رجلان من الانصار،
فلما رايا النبي – صلى الله عليه وسلم – اسرعا، فقال رسول الله – صلى
الله عليه وسلم -: ((على رسلكما، انها صفية بنت حيي))، فقالا: سبحان الله يا رسول
الله! فقال: ((ان الشيطان يجري من الانسان مجرى الدم، واني خشيت ان يقذف في قلوبكما
شيئا – او قال: شرا))( ).
حسن الاستماع:
يتحدث الدعاة عن فن احتواء القلوب، ويضعون حسن الاستماع الى الاخر اول الخطوات الى كسب
وتاليف القلوب، وها هو سيد الدعاة يعلمنا في احد المواقف كيف نستمع الى الاخر بكل
حب، حتى وان اغلظ في القول او بدا غير مهذب.
“بعثت بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا الى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – فقدم عليه فاناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد
ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – جالس في اصحابه، وكان ضمام رجلا اشعر
ذا غديرتين، فاقبل حتى وقف على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في
اصحابه، فقال: ايكم ابن عبدالمطلب، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((انا
ابن عبدالمطلب))، قال: محمد، قال: ((نعم))، قال: ابن عبدالمطلب، اني سائلك ومغلظ في المسالة، فلا
تجدن في نفسك، قال: ((لا اجد في نفسي، فسل عما بدا لك))، قال: انشدك بالله
الهك واله من قبلك واله من هو كائن بعدك، الله بعثك الينا رسولا؟ قال: ((اللهم
نعم))، فقال: انشدك بالله الهك واله من هو كائن بعدك، الله امرك ان تامرنا ان
نعبده لا نشرك به شيئا، وان نخلع هذه الانداد التي كان اباؤنا يعبدون معه؟ قال:
((اللهم نعم))، قال: فانشدك الله الهك واله من قبلك واله من هو كائن بعدك، الله
امرك ان تصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: ((اللهم نعم))، قال: ثم جعل يذكر فرائض الاسلام
فريضة فريضة: الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع الاسلام كلها، يناشده عند كل فريضة كما ناشده في
التي قبلها.
فلما فرغ قال: اني اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا رسول الله،
وساؤدي هذه الفرائض، واجتنب ما نهيتني عنه لا ازيد ولا انقص، قال: ثم انصرف راجعا
الى بعيره، قال: فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين ولى: ((ان
صدق ذو العقيصتين يدخل الجنة))، قال: فاتى بعيره فاطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على
قومه فاجتمعوا اليه، فكان اول ما تكلم به ان قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه
يا ضمام، اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم، انهما والله ما يضران ولا ينفعان؛
ان الله قد بعث رسولا، وانزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، واني اشهد
ان لا اله الا الله، وحده لا شريك له، وان محمدا عبده ورسوله، وقد جئتكم
من عنده بما امركم به ونهاكم عنه، قال: فوالله ما امسى في ذلك اليوم وفي
حاضره رجل ولا امراة الا مسلما، قال: يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم افضل
من ضمام”( ).
الكلام المناسب:
يعلمنا الرسول القدوة ان لكل كلام وقتا ومناسبة، وليس اي كلام يصلح في اي وقت،
ويوضح لنا من خلال مواقفه العملية الراقية كيف نكون رحماء بالناس؛ من خلال الكلمة الطيبة
التي تراعي مشاعرهم، وتقدر احتياجاتهم، فنكون لهم سندا وعونا في صحراء الحياة القاسية.
ولنا ان نتامل في هذا الموقف كيف احس رسول الله بما يحتاجه جابر بن عبدالله
من دعم معنوي ومادي بعد عودته متعبا من غزوة ذات الرقاع “وجابر – رضي الله
عنه – اهل لهذه العناية في هذه الايام بالذات؛ فقد قتل ابوه في معركة (احد)،
وهو سيد من سادات الانصار، وقد خلف وراءه تبعة ثقيلة تحملها ابنه الاكبر هذا وحده،
وترك الاب لولده مهمة رعاية البنات اليتم، وقد بلغ عددهن سبعا، على فقر وشظف، وكان
اجدر بغير جابر ان يتخلف عن مثل هذه الغزوة؛ متعللا بهذه المسؤولية الاسرية الصعبة، ولو
تخلف مثل جابر لكان له في ذلك الف عذر، ولكنها اسرة مسلمة مجاهدة، وربها مجاهد
ابن مجاهد، ومن يشابه اباه فما ظلم”( ).
لقد رق النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو صاحب القلب الرؤوف – لحال
جابر وال جابر وبيت جابر، فيبدو ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
كان يلحظه بعين رحمته الشفيقة بين الفينة والاخرى، كما ينظر احدنا لولده شفقة من حين
الى اخر؛ حتى لم يجده مرة في صفوف الجيش، وقد جعل الجيش يمضي وجابر يتاخر
به جمله العليل، ويكان العلة قد اصابت جابرا في كل بيته حتى جمله!
فاذا النبي – صلى الله عليه وسلم – يدرك ذلك، فيؤخر جمله؛ ليلحق بجابر في
اخر الجيش، فادركه، وعلم ما حل بجمله من علة، فقال النبي – صلى الله عليه
وسلم -: ((اعطني هذه العصا من يدك))، قال جابر: فنخسه بها نخسات، ثم قال النبي
– صلى الله عليه وسلم -: ((اركب))، فركبت، فخرج والذي بعثه بالحق يواهق ناقته مواهقة!

ثم دار هذا الحديث الرقيق الرفيق، الذي يعبر عن نفس زكية عظيمة، كانت بين جنبي
محمد – صلى الله عليه وسلم – تبين لك كيف كان حرصه على المؤمنين، وكيف
كان يتذرع الذرائع من اجل ان يخدمهم، ويصنع الصنائع من اجل ان يكرمهم:
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اتبيعني جملك هذا يا جابر؟))، قال
جابر: يا رسول الله، بل اهبه لك؟ قال: ((لا، ولكن بعنيه))، قال جابر: فسمني به،
قال: ((قد قلت: اخذته بدرهم))، قال: لا، اذا يغبنني رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – قال: ((فبدرهمين))، قال جابر: لا.
ولم يزل هذا الحديث الفكه هكذا، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرفع
له في سعر الجمل حتى بلغ الاوقية، فقال جابر: فقد رضيت، فقال رسول الله –
صلى الله عليه وسلم -: ((قد رضيت؟))، قال: نعم، هو لك، قال: ((قد اخذته)).
ثم انتقل الحوار الكريم الى مجال اخر، وقد تحدث النبي الى جابر كما يتحدث احدنا
الى اخيه او صديقه حديث الرجل للرجل، مع ظرف وطرف ولطف:
فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لجابر: ((يا جابر، هل تزوجت بعد؟))، قال:
نعم يا رسول الله، قال: ((اثيبا ام بكرا؟))، قال: بل ثيبا، قال: ((افلا جارية، تلاعبها
وتلاعبك؟))، قال: يا رسول الله، ان ابي اصيب يوم احد، وترك بنات له سبعا، فنكحت
امراة جامعة؛ تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال: ((اصبت ان شاء الله)).
ثم قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((اما انا لو قد جئنا صرارا
[موضع قرب المدينة] امرنا بجزور فنحرت، واقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا، فنفضت نمارقها))، قال:
والله يا رسول الله، ما لنا من نمارق!
قال: ((انها ستكون، فاذا انت قدمت، فاعمل عملا كيسا)).
{واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} [الشعراء: 215].
قال جابر: فلما جئنا صرارا، امر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بجزور
فنحرت، فاقمنا عليها ذلك اليوم، فلما امسى رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
دخل، ودخلنا، فلما اصبحت اخذت براس الجمل فاقبلت به؛ حتى انخته على باب رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – ثم جلست في المسجد قريبا منه، وخرج رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – فراى الجمل، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: يا رسول الله،
هذا جمل جاء به جابر، قال: ((فاين جابر؟))، فدعيت له، قال: ((تعال، اي يا بن
اخي، خذ براس جملك، فهو لك)).
فدعا بلالا، فقال: ((اذهب بجابر، فاعطه اوقية))، فذهبت معه فاعطاني اوقية، وزادني شيئا يسيرا.
قال جابر: فوالله ما زال ينمي عندنا، ونرى مكانه من بيتنا ( ).
ولا تنقضي مواقف الرسول الرحيم الرؤوف بامته، وبسائر بني البشر، فهي مدرسة تحتاج ان نلجها
صبحا ومساء؛ كي ناخذ زادا يعيننا على السير على طريق الحق والخير؛ طريق الرسول الكريم.

الفصل الثاني
مراعاة النفسيات المختلفة
مع اتفاق بني البشر في طبائع معينة، الا ان الله خلق لكل انسان شخصية خاصة
به، وطباعا تتعلق به وحده، يتوارثها او يكتسبها من بيئته، كما ان لكل فرد نفسية
خاصة تحتاج لفهم؛ حتى لا نسبب الاذى، او نقلل شان احد دون وعي او ادراك،
وهذا فن اخر يعلمنا اياه رسول الانسانية – صلى الله عليه وسلم – من خلال
تعامله مع صحابته ومع غيرهم من افراد المجتمع في المدينة.
ولنتامل بعضا من تعامله مع تلك النفسيات المتباينة، كيف تعامل معها جميعا، وجمعها في وحدة
واحدة، وعلى طريق واحد؟
تعامله مع الصديق – رضي الله عنه -:
فها هو مع صاحبه وخليله ابي بكر يقدر له تلك النفس الرقيقة، ويختاره صاحبا له
في الهجرة، ولم يقل حينها: انا احتاج الى رفيق قوي يحمي الدعوة؛ وانما راه رجل
تلك الرحلة – والتي كانت من كبرى احداث الاسلام – بل كاد ان يتوقف عليها
مستقبل الدعوة باكملها، ثم ها هو يختاره في اشد اللحظات حرجا؛ ليؤكد انه الاصلح لخلافته.

لما مرض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرض الموت، واشتد عليه الوجع،
لم يستطع القيام ليصلي بالناس، فقال وهو على فراشه: ((مروا ابا بكر فليصل بالناس))، قالت
ام المؤمنين عائشة بنت الصديق – رضي الله عنها -: ان ابا بكر رجل اسيف،
اذا قام مقامك لم يستطع ان يصلي بالناس؛ اي: من شدة التاثر والبكاء، وكان النبي
– صلى الله عليه وسلم – يعلم ذلك عن ابي بكر، انه رجل رقيق يغلبه
البكاء، خاصة في هذا الموطن، لكنه – صلى الله عليه وسلم – كان يشير الى
احقية ابي بكر بالخلافة من بعده، فاعاد – صلى الله عليه وسلم – الامر: ((مروا
ابا بكر فليصل بالناس)) حتى صلى ابو بكر.
تعامله مع عمر بن الخطاب:
وتعامل – صلى الله عليه وسلم – مع عمر القوي الجريء في الحق الذي لا
يرضى بالدنية، وزكى شجاعته
وقوته بتلقيبه بالفاروق، وبقوله له: ((ما لقيك الشيطان قط سالكا فجا، الا سلك فجا غير
فجك)) .
وهنا في هذا الموقف نجد لعمر حضورا يسعد به النبي.
لقد خرج النبي – صلى الله عليه وسلم – مع اصحابه الى بدر، فلما سمع
بخروج قريش عرف ان رجالا من قريش سيحضرون الى ساحة المعركة كرها، ولن يقع منهم
قتال على المسلمين.
فقام – صلى الله عليه وسلم – في اصحابه وقال: ((اني قد عرفت رجالا من
بني هاشم وغيرهم قد اخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا؛ فمن لقي منكم احدا من
بني هاشم، فلا يقتله، ومن لقي ابا البختري بن هشام، فلا يقتله، ومن لقي العباس
بن عبدالمطلب عم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلا يقتله؛ فانه انما
خرج مستكرها)).
وقيل: ان العباس كان مسلما يكتم اسلامه، فلم يحب النبي – صلى الله عليه وسلم
– ان يقتله المسلمون.
كانت هذه المعركة اول معركة تقوم بين الفريقين: المسلمين وكفار قريش.
وكانت نفوس المسلمين مشدودة، فهم لم يستعدوا لقتال، وسيقاتلون اقرباء وابناء واباء.
وهذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يمنعهم من قتل البعض، وكان عتبة
بن ربيعة من كبار كفار قريش، ومن قادة الحرب، وكان ابنه ابو حذيفة بن عتبة
بن ربيعة مع المسلمين، فلم يصبر ابو حذيفة، بل قال: انقتل اباءنا وابناءنا واخواننا، ونترك
العباس؟! والله لئن لقيته لالحمنه بالسيف.
فبلغت كلمته رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فالتفت النبي – عليه الصلاة
والسلام – فاذا حوله اكثر من ثلاثمائة بطل، فوجه نظره فورا الى عمر، ولم يلتفت
الى غيره وقال: ((يا ابا حفص، ايضرب وجه عم رسول الله بالسيف؟!)).
قال عمر: والله، انه لاول يوم كناني فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– بابي حفص.
وكان عمر رهن اشارة النبي – صلى الله عليه وسلم – ويعلم انهم في ساحة
قتال لا مجال فيها للتساهل في التعامل مع من يخالف امر القائد، او يعترض امام
الجيش، فاختار عمر حلا صارما، فقال: يا رسول الله، دعني فلاضرب عنقه بالسيف، فمنعه النبي
– صلى الله عليه وسلم – وراى ان هذا التهديد كاف في تهدئة الوضع.
كان ابو حذيفة – رضي الله عنه – رجلا صالحا، فكان بعدها يقول: ما انا
بامن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا ازال منها خائفا الا ان تكفرها عني
الشهادة، فقتل يوم اليمامة شهيدا.
هذا عمر، كان – رضي الله عنه – يعلم بنوع الاعمال التي يسندها اليه، فليس
الامر متعلقا بجمع صدقات، ولا باصلاح متخاصمين، ولا بتعليم جاهل؛ وانما هم في ساحة قتال،
فكانت الحاجة الى الرجل الحازم المهيب اكثر منها الى غيره؛ لذا اختار عمر واستثاره: ((ايضرب
وجه عم رسول الله بالسيف؟!)) .
وهذا الموقف الاخر الذي يرويه لنا الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود يؤكد لنا كيف زكى
رسول الله صاحبيه الاثنين، وراى في كل منهما شبها باحد الانبياء، فلم يعتب على احد
منهما في رايه، وانما راى لكل منهما نفسية خاصة يصدر عنها في رايه؛ فقدر هذا
ورحب به، فليتنا نتشبه بفعل رسول الله ونقتدي بفعله الكريم؛ فعن عبدالله بن مسعود –
رضي الله عنه – قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله – صلى الله
عليه وسلم -: ((ما تقولون في هؤلاء الاسرى؟)) فقال ابو بكر: يا رسول الله، قومك
واهلك، استبقهم واستان بهم، لعل الله ان يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله، اخرجوك
وكذبوك، قربهم فاضرب اعناقهم، وقال عبدالله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب،
فادخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارا، فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – ولم يرد عليهم شيئا، فقال ناس: ياخذ بقول ابي بكر، وقال
ناس: ياخذ بقول عمر، وقال ناس: ياخذ بقول عبدالله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – فقال: ((ان الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون
الين من اللبن، وان الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون اشد من الحجارة، وان
مثلك يا ابا بكر، كمثل ابراهيم – عليه السلام – قال: {فمن تبعني فانه مني
ومن عصاني فانك غفور رحيم} [ابراهيم: 36]، ومثلك يا ابا بكر كمثل عيسى قال: {ان
تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم} [المائدة: 118]، وان مثلك يا
عمر كمثل نوح؛ اذ قال: {رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا} [نوح: 26]،
وان مثلك يا عمر كمثل موسى قال: {ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم فلا
يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم} [يونس: 88]، ثم قال – صلى الله عليه وسلم -:
((انتم عالة، فلا ينفلتن منهم احد الا بفداء او ضرب عنق))  .
تعامله مع ابي ذر:
كان رسول الله بما اوتي من فهم، قد ادرك نفسية ابي ذر التي تكره الظلم،
وتاخذ نفسها بالشدة والزهد، فوجهه الى ان يكون نصيرا للمحتاجين ثابتا على مبدا الحق، وان
خالفه الناس؛ ولانه فهم تلك النفسية العازفة عن الدنيا قال له عندما طلب الامارة يوما:

يا رسول الله، الا تستعملني في اي منصب، قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال:
((يا ابا ذر، انك ضعيف، وانها امانة، وانها يوم القيامة خزي، وندامة الا من اخذها
بحقها، وادى الذي عليه فيه)) .
تعامله مع ابي سفيان:
كان ابو سفيان من اكثر المشركين عداء لرسول الله ولدعوة الاسلام، وكان احد القواد الذين
يقودون المعارك ضد رسول الله، ولكن رسول الله كان يود له الخير، ويرجو ان يهديه
الله الى دينه الحق؛ لذا تعامل مع نفسيته التي تحب الفخر والتي اعتادت على مظهر
القوة، وقدم له الدليل العملي على قوة الاسلام، وانتشار امره في الجزيرة العربية؛ مما كان
له اثره الكبير في نفس ابي سفيان؛ فاستجاب لداعي الحق واعلن اسلامه عقب الفتح.
ولنر في حديث العباس كيف تعامل الرسول مع ابي سفيان قائد جيش المشركين قبل اسلامه:

قال العباس: قلت: يا رسول الله، ان ابا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا،
قال: ((نعم، من دخل دار ابي سفيان فهو امن، ومن اغلق بابه فهو امن، ومن
دخل المسجد فهو امن))، فلما ذهب لينصرف، قال رسول الله: ((يا عباس، احبسه بمضيق الوادي
عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها))، قال: فخرجت حتى حبسته حيث امرني
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة،
قال: يا عباس، من هذه؟ فاقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، ثم تمر به القبيلة،
فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فاقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة، حتى مر به رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والانصار، لا يرى
منهم الا الحدق من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس! من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في المهاجرين والانصار، قال: ما لاحد بهؤلاء
قبل ولا طاقة، ثم قال: والله يا ابا الفضل، لقد اصبح ملك ابن اخيك اليوم
عظيما، قال: قلت: يا ابا سفيان، انها النبوة، قال: فنعم اذا، قال: قلت: النجاء الى
قومك.
ان في هذه القصة دروسا وعبرا وحكما في كيفية معاملة رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – للنفوس البشرية، ومن اهم هذه الدروس:
عندما اصبح ابو سفيان رهينة بيد المسلمين، واصبح رهن اشارة النبي – صلى الله عليه
وسلم – وهم به عمر، واجاره العباس، ثم جاء في صبيحة اليوم الثاني ليمثل بين
يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكانت المفاجاة الصاعقة له بدل التوبيخ
والتهديد والاذلال ان يدعى الى الاسلام، فتاثر بهذا الموقف واهتز كيانه، فلم يملك الا ان
يقول: بابي انت وامي يا محمد، ما احلمك واكرمك واوصلك! انه يفدي رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – بابيه وامه، ويثني عليه الخير كله: ما احلمك واكرمك واوصلك!
.
وعندما قال العباس للنبي – صلى الله عليه وسلم -: ان ابا سفيان رجل يحب
الفخر، فاجعل له شيئا، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، من دخل
دار ابي سفيان فهو امن))، ففي تخصيص بيت ابي سفيان شيء يشبع ما تتطلع اليه
نفس ابي سفيان، وفي هذا تثبيت له على الاسلام وتقوية لايمانه، وكان هذا الاسلوب النبوي
الكريم عاملا على امتصاص الحقد من قلب ابي سفيان، وبرهن له بان المكانة التي كانت
له عند قريش، لن تنتقص شيئا في الاسلام، ان هو اخلص له وبذل في سبيله،
وهذا منهج نبوي كريم، على العلماء والدعاة الى الله ان يستوعبوه ويعملوا به في تعاملهم
مع الناس .
تعامله مع نفسيات زوجاته:
مما لا شك فيه ان زواج الرجل باكثر من زوجة له نتائج كارثية في كثير
من البيئات، ليس بسبب الزواج نفسه، ولكن لان الرجل الذي يتزوج لا يحسن التعامل مع
نفسية زوجتيه الاولى او الثانية، فهو لا يقدر ان الغيرة امر طبعي في فطرة المراة،
فلا يعمل على علاجها او التقليل منها، وهو كذلك لا يقدر الم الزوجة الاولى النفسي؛
لانها من عاشت معه السنوات الاولى التي يكون فيها دائما الكثير من المصاعب التي تتحملها
الزوجة راضية مع زوجها؛ لذا فان رسول الله – الذي جمع بين تسعة نساء –
يقدم لنا النموذج الراقي في التعامل مع النساء وغيرتهن الطبيعية، ولنقرا ذلك الموقف الذي حدث
مع ام المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وكيف كان متفهما لموقفها، وفي نفس
الوقت كان يدعوها الى تصحيح ما اخطات.
تروي ام سلمة انها اتت بطعام في صحفة لها الى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – واصحابه، فجاءت عائشة متزرة بكساء، ومعها فهرة، فلقت به الصحفة، فجمع النبي
– صلى الله عليه وسلم – بين فلقتي الصحفة، ويقول: كلوا، غارت امكم مرتين، ثم
اخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – صحفة عائشة، فبعث بها الى ام
سلمة، واعطى صحفة ام سلمة عائشة .
تعامله مع الاعراب:
اما الاعراب، فهم ابناء بيئة جافة خشنة، تجعل نفوسهم اقرب الى الجفاء منها الى الود،
يحتاجون في التعامل معهم الى نفس هادئة حليمة، تفهم طبيعتهم، وتقدر نفسياتهم، فتبسط اليهم الود؛
حتى وان بدؤوك بالعدوان، فلنتعلم من مدرسة النبوة، ولنقف على بعض تلك المواقف التي تزيدنا
حبا وتعلقا برسولنا الكريم:
ولنستمع الى انس بن مالك يروي لنا:
كنت امشي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه برد نجراني غليظ
الحاشية، فادركه اعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، حتى نظرت الى صفحة عاتق رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – قد اثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته، ثم قال:
يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت اليه رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – ثم ضحك، ثم امر له بعطاء .
ان هذا الاعرابي لا يعجبه المنطق الدقيق، ولا الطبع الرفيق، قدر ما يعجبه عطاء يملا
جيبوبه، ويسكن مطامعه .
وفي يوم اقبل رجل الى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فساله مالا،
فاعطاه النبي الكريم قطيعا من غنم بين جبلين، فرجع الرجل الى قومه، فقال: ((يا قوم،
اسلموا؛ فان محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة .
مع الانصار بعد غزوة حنين:
واننا لنعجب من موقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – من الانصار بعد غزوة
حنين؛ اذ ادرك ما بنفوسهم، فتعامل مع نفسياتهم المتاثرة بحب بالغ حتى بكت قلوبهم، ودمعت
اعينهم تاثرا وحبا لرسول لله، وايثارا لما عند الله، فلله دره من معلم! وها هي
القصة يرويها لنا ابو سعيد الخدري – رضي الله عنه -:
لما اصاب رسول الله الغنائم يوم حنين، وقسم للمؤلفة قلوبهم من قريش وسائر العرب ما
قسم، ولم يكن في الانصار شيء منها – قليل ولا كثير – وجد هذا الحي
من الانصار في انفسهم حتى قال قائلهم: لقي والله رسول الله قومه، فمشى سعد بن
عبادة الى رسول الله، فقال: يا رسول الله، ان هذا الحي من الانصار وجدوا عليك
في انفسهم؟ قال: ((فيم؟))، قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر
العرب، ولم يكن فيهم من ذلك شيء، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم
-: ((فاين انت من ذلك يا سعد؟))، قال: ما انا الا امرؤ من قومي، فقال
رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((اجمع لي قومك في هذه الحظيرة، فاذا
اجتمعوا فاعلمني))، فخرج سعد فصرخ فيهم، فجمعهم في تلك الحظيرة، حتى اذا لم يبق من
الانصار احد الا اجتمع له، اتاه، فقال: يا رسول الله، اجتمع لك هذا الحي من
الانصار حيث امرتني ان اجمعهم، فخرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقام
فيهم خطيبا، فحمد الله واثنى عليه بما هو اهله، ثم قال: ((يا معشر الانصار، الم
اتيكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فاغناكم الله، واعداء فالف الله بين قلوبكم؟))، قالوا: بلى! قال
رسول الله: ((الا تجيبوني يا معشر الانصار؟))، قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وبماذا نجيبك؟
المن لله ورسوله، قال: ((والله، لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا طريدا فاويناك، وعائلا فاسيناك،
وخائفا فامناك، ومخذولا فنصرناك))، فقالوا: المن لله ورسوله، فقال: ((اوجدتم في نفوسكم يا معشر الانصار
في لعاعة من الدنيا، تالفت بها قوما اسلموا، ووكلتكم الى ما قسم الله لكم من
الاسلام، افلا ترضون يا معشر الانصار ان يذهب الناس الى رحالهم بالشاء والبعير، وتذهبون برسول
الله الى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده، لو ان الناس سلكوا شعبا وسلكت الانصار شعبا، لسلكت
شعب الانصار، ولولا الهجرة لكنت امرا من الانصار، اللهم ارحم الانصار، وابناء الانصار، وابناء ابناء
الانصار))، فبكى القوم حتى اخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ربا، ورسوله قسما، ثم انصرف وتفرقوا
.
الفصل الثالث
مراعاة الظروف والمواقف المختلفة
مما لا شك فيه ان الظروف المختلفة التي تمر بالانسان، لها اثرها على تفكيره وتعامله،
وانه قد يتصرف في موقف ما غير تصرفه في موقف اخر، ففي وقت الخوف نقبل
من الناس ما لا نقبل منهم وقت الامن، وهم في وقت الفرح يقولون ما لا
يقبلون به في وقت الحزن، ولقد راينا كيف كان رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – حين يتعامل مع الناس يراعي تلك الحالات الشعورية التي تختلف عند كل موقف،
كما كان يراعي اختلاف احوال الشخص، فلا يكلفه بما لا يطيق او يعنفه في امر
لم يكن بيده.
ولننظر الى مواقف الرسول العظيم، وكيف كان متفهما ومدركا لمشاعر اصحابه في كل موقف:
اخذ بنفسي الذي اخذ بنفسك:
فها هو مع بلال – رضي الله عنه – يظهر رفقا وحلما، ولم يعنف مثلما
نفعل كثيرا نحن مع الاصحاب والابناء:
ولنقف مع رواية ابي هريرة يحدثنا عن ذلك الموقف:
ان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين قفل من غزوة خيبر، فسار
ليله حتى اذا ادركه الكرى عرس، وقال لبلال: اكلا لنا الليل، فصلى بلال ما قدر
له، ونام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واصحابه، فلما تقارب الفجر، استند
بلال الى راحلته مواجه الفجر، فغلبت بلالا عيناه وهو مستند الى راحلته، فلم يستيقظ بلال
ولا احد من اصحابه حتى ضربتهم الشمس، فكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– اولهم استيقاظا، ففزع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: اي بلال،
فقال بلال: اخذ بنفسي الذي اخذ بنفسك بابي انت وامي يا رسول الله، قال: اقتادوا
فاقتادوا رواحلهم شيئا، ثم توضا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وامر بلالا
فاقام الصلاة، فصلى بهم الصبح، فلما قضى النبي – صلى الله عليه وسلم – الصلاة،
قال: من نسي صلاة، فليصلها اذا ذكرها؛ فان الله – عز وجل – قال: {واقم
الصلاة لذكري} [طه: 14] .
وهكذا راينا الحبيب يتفهم تعب بلال، ويقدر حالته، فلا يغضب ولا يعنف!
يا عمرو، صليت باصحابك وانت جنب؟
ثم نراه مع عمرو بن العاص ايضا متفهما ورافعا للحرج؛ اذ حدث ان احتلم عمرو
بن العاص في ليلة باردة، وخشي على نفسه ان اغتسل ان يعتل، فتيمم وصلى بالناس،
وكان بعض الصحابة شك في هذا الصنيع من عمرو، فذهب الى النبي – صلى الله
عليه وسلم – يقول له: ان عمرا صلى بنا وهو جنب! قال الرسول: يا عمرو،
صليت باصحابك وانت جنب؟ فاخبره بالذي منعه من الاغتسال، لقد خشي على نفسه من قسوة
البرد، والله يقول: {ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما} [النساء: 29]، فضحك الرسول
ولم يقل شيئا .
ليسوا فرارا، ولكنهم الكرار – ان شاء الله عز وجل:
في السنة الثامنة من الهجرة جمع الروم جيشا، واقبل من جهة الشام لقتال النبي –
صلى الله عليه وسلم – واصحابه، بدا – صلى الله عليه وسلم – يجهز جيشا
لارساله اليهم، فلم يزل يحث الناس حتى جمع ثلاثة الاف، فزودهم بما وجد من سلاح
وعتاد، قال لهم: اميركم زيد بن حارثة، فان اصيب زيد فجعفر بن ابي طالب على
الناس، فان اصيب جعفر فعبدالله بن رواحة، ثم خرج معهم – صلى الله عليه وسلم
– يودعهم، وخرج الناس يودعون الجيش ويقولون: صحبكم الله، ودفع عنكم، وردكم الينا صالحين.
ثم مضى الجيش حتى نزلوا “معان” من ارض الشام، فبلغهم ان هرقل – ملك الروم
– قد نزل من ارض البلقاء في مائة الف من الروم، وانضم اليه من القبائل
حوله مائة الف، فصار جيش الروم مائتي الف، فلما تيقن المسلمون من ذلك، اقاموا في
“معان” ليلتين ينظرون في امرهم، فقال بعضهم: نكتب الى رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – نخبره بعدد عدونا، فاما ان يمدنا بالرجال، او يامرنا بما يشاء، فنمضي له،
وكثر كلام الناس في ذلك، فقام عبدالله بن رواحة، ثم صاح بالناس، وقال: يا قوم،
والله ان التي تكرهون، هي التي خرجتم تطلبون، الشهادة في سبيل الله، تفرون منها، وما
نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم الا بهذا الدين الذي اكرمنا الله
به، فانطلقوا فانما هي احدى الحسنيين: اما ظهور، واما شهادة، فمضى الناس يسيرون، حتى اذا
دنوا من جيش الروم في موقعة: “مؤتة”، فاذا اعداد عظيمة لا قبل لاحد بها.
قال ابو هريرة – رضي الله عنه -: شهدت يوم “مؤتة”، فلما دنا منا المشركون،
راينا ما لا قبل لاحد به من العدة والسلاح، والكراع، والديباج، والحرير، والذهب، فبرق بصري،
فقال لي ثابت بن ارقم: يا ابا هريرة، كانك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم، قال:
انك لم تشهد بدرا معنا، انا لم ننصر بالكثرة، ثم التقى الناس، فاقتتلوا، فقاتل زيد
بن حارثة براية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى كثرت عليه الرماح،
وسقط صريعا شهيدا، فاخذ الراية جعفر – بكل بطولة – فاقتحم عن فرس له شقراء،
فجعل يقاتل القوم.
اخذ جعفر اللواء بيمينه فقطعت، فاخذ اللواء بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل – وهو
ابن ثلاث وثلاثين سنة – قال ابن عمر: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددت
به خمسين: بين طعنة، وضربة، ليس منها شيء في دبره، فاثابه الله بذلك جناحين في
الجنة يطير بهما حيث يشاء.
ان رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعته نصفين، فلما قتل جعفر، اخذ عبدالله بن
رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه، ويتردد بعض التردد، ويقول:

اقسمت يا نفس لتنزلنه = طائعة او لتكرهنه
ان اجلب الناس وشدوا الرنه =  ما لي اراك تكرهين الجنه
ثم قال:
يا نفس الا تقتلي تموتي  =  هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد اعطيت  =  ان تفعلي فعلهما هديت
ثم نزل، فلما نزل اتاه ابن عم له بعرق من لحم، شد بهذا صلبك؛ فانك
قد لقيت في ايامك هذه ما لقيت، فاخذه من يده، فانتهش منه نهشة، ثم سمع
الحطمة في ناحية الناس، فقال: وانت في الدنيا! فالقاه من يده، ثم اخذ سيفه ثم
تقدم، فقاتل حتى قتل – رضي الله عنه – فوقعت الراية، واضطرب المسلمون، وابتهج الكافرون
والراية تطؤها الخيل ويعلوها الغبار، فاقبل البطل ثابت بن ارقم، ثم رفعها، وصاح: يا معاشر
المسلمين، هذه الراية فاصطلحوا على رجل منكم، فتصايح من سمعه وقالوا: انت، انت، قال: ما
انا بفاعل، فاشاروا الى خالد بن الوليد، فلما اخذ الراية، قاتل بقوة، حتى انه كان
يقول: لقد اندق في يدي يوم مؤتة تسعة اسياف، فما بقي في يدي الا صفيحة
يمانية ثم انحاز خالد بالجيش، وانحاز الروم الى معسكرهم.
خشي خالد ان يرجع بالجيش الى المدينة من ليلته، فيتبعهم الروم، فلما اصبحوا غير خالد
مواقع الجيش، فجعل مقدمة الجيش في المؤخرة، وجعل مؤخرة الجيش مقدمة، ومن كانوا يقاتلون في
يمين الجيش امرهم بالانتقال الى يساره، وامر من في الميسرة ان يذهبوا للميمنة، فلما ابتدا
القتال واقبل الروم، فاذا كل سرية منهم ترى رايات جديدة ووجوها جديدة، فاضطرب الروم وقالوا:
قد جاءهم في الليل مدد، فرعبوا في القتال، فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة، ولم يقتل
من المسلمين الا اثنا عشر رجلا، وانسحب خالد بالجيش اخر النهار من ساحة القتال، ثم
واصل مسيره نحو المدينة، فلما اقبلوا الى المدينة، لقيهم الصبيان يتراكضون اليهم، ولقيتهم النساء، فجعلوا
يحثون التراب في وجوه الجيش، ويقولون :يا فرار، فررتم في سبيل الله، فلما سمع النبي
– صلى الله عليه وسلم – ذلك، علم انهم لم يكن امامهم الا ذلك، وانهم
فعلوا ما بوسعهم، فقال – صلى الله عليه وسلم – مدافعا عنهم: ((ليسوا بالفرار، ولكنهم
الكرار – ان شاء الله عز وجل)).
نعم، انتهى الامر، وهم ابطال ما قصروا، لكنهم بشر، والامر كان فوق طاقتهم .
الفصل الرابع
التعامل مع المتربصين
لا يزال صراع الحق والباطل قائما الى يوم الدين، ولا يزال الذين يتمنون القضاء على
هذا الدين يتمنون فرصة للنيل منه والقضاء عليه، ولم يخل عهد رسول الله من هؤلاء،
بعضهم يدفعه الجهل، والبعض الاخر يدفعه حقد مقيت وبغض للحق واهله، فكيف تعامل رسول الانسانية
مع هؤلاء المتربصين به وبدين الله، يبغون فتنة في الارض وافسادا؟
ها هي احدى المواقف نرى فيه حسن تعامل القائد والداعية مع المتربص به يريد قتله.

من يمنعك مني؟
في احدى الغزوات وفي طريق العودة الى المدينة، نزل الجيش الاسلامي – حين ادركته القائلة
– في واد كثير العضاة – وهو نبات شوكي – فنزل رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – تحت سمرة، فعلق بها سيفه.
قال جابر: فنمنا نومة، ثم اذا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يدعونا
فجئناه، فاذا عنده اعرابي جالس، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((ان
هذا اخترط سيفي وانا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتا، فقال لي: من يمنعك مني؟
قلت: الله، فسقط السيف من يده، فها هو ذا جالس))، ولم يعاقبه رسول الله –
صلى الله عليه وسلم .
وعفا النبي – صلى الله عليه وسلم – عن هذا الاعرابي، فخلق العفو سجية طبعية
في تلك النفس الزكية؛ {وانك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]، {وما ارسلناك الا رحمة للعالمين}
[الانبياء: 107] .
ماذا كنت تحدث به نفسك؟
اراد فضالة بن عمير بن الملوح الليثي قتل النبي – صلى الله عليه وسلم –
وهو يطوف بالبيت عام الفتح، فلما دنا منه، قال رسول الله – صلى الله عليه
وسلم -: ((افضالة؟))، قال: نعم، فضالة يا رسول الله، قال: ((ماذا كنت تحدث به نفسك))،
قال: لا شيء، كنت اذكر الله، قال: فضحك النبي – صلى الله عليه وسلم –
ثم قال: ((استغفر الله))، ثم وضع يده على صدره، فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله
ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء احب الي منه.
رحلة الطائف:
لما مات ابو طالب، ضيقت قريش كثيرا على النبي – صلى الله عليه وسلم –
في مكة، ونالت من الاذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه ابي طالب،
فجعل – صلى الله عليه وسلم – يفكر في مكان اخر يلجا اليه يجد فيه
النصرة والتاييد، فخرج الى الطائف يلتمس من قبيلة ثقيف النصرة والمنعة، دخل الطائف فتوجه الى
ثلاثة رجال هم سادة ثقيف واشرافهم، وهم اخوة ثلاثة: عبدياليل بن عمرو، واخوه مسعود، وحبيب،
جلس اليهم، ودعاهم الى الله، وكلمهم لما جاءهم له: من نصرته على الاسلام، والقيام معه
على من خالفه من قومه، وكان ردهم بذيئا!!
اما احدهم، فقال: انا امرط ثياب الكعبة ان كان الله ارسلك!
وقال الاخر: اما وجد الله احدا يرسله غيرك؟!
وجعل الثالث يبحث متحذلقا عن عبارة يرد بها، وحرص على ان تكون ابلغ من كلام
صاحبيه، فقال: والله لا ارد عليك ابدا، لئن كنت رسولا من الله – كما تقول
– لانت اعظم خطرا من ان ارد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، فما
ينبغي لي ان اكلمك.
فقام – صلى الله عليه وسلم – من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وخشي
ان تعلم قريش انهم ردوه، فيزدادوا ايذاء له، فقال لهم: ان فعلتم ما فعلتم، فاكتموا
علي، فلم يفعلوا، بل اغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فجعلوا يركضون وراء رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – يسبونه ويصيحون به وقد اصطفوا صفين وهو يسرع الخطى بينهم، وكلما
رفع رجلا رضخوها بالحجارة، وهو – صلى الله عليه وسلم – يحاول ان يسرع في
خطاه؛ ليتقي ما يرمونه به من حجارة، وجعلت قدماه الشريفتان تسيلان بالدماء وهو الكهل الذي
جاوز الاربعين، فابعد عنهم ومشى حتى جلس في موضع امن يستريح تحت ظل نخلة، وهو
منشغل البال: كيف ستستقبله قريش؟ كيف سيدخل مكة؟! فرفع طرفه الى السماء، وقال: اللهم اليك
اشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا ارحم الراحمين، انت رب المستضعفين، وانت
ربي، الى من تكلني؟! الى بعيد يتجهمني ام الى عدو ملكته امري؟!
ان لم يكن بك غضب علي، فلا ابالي، ولكن عافيتك هي اوسع لي، اعوذ بنور
وجهك الذي اشرقت له الظلمات، وصلح عليه امر الدنيا والاخرة، من ان ينزل بي غضبك،
او يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة الا بك، فبينما
هو كذلك، فاذا بسحابة تظله، واذا فيها جبريل – عليه السلام – فناداه:
يا محمد، ان الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث لك
ملك الجبال لتامره بما شئت فيهم، وقبل ان ينطق – صلى الله عليه وسلم –
بكلمة، ناداه ملك الجبال: السلام عليك يا رسول الله، يا محمد، ان الله قد سمع
قول قومك لك، وانا ملك الجبال، قد بعثني اليك ربك لتامرني ما شئت، ثم قبل
ان ينطق – صلى الله عليه وسلم – او يختار جعل ملك الجبال يعرض عليه،
ويقول: ان شئت تطبق عليهم الاخشبين، وجعل ملك الجبال ينتظر الامر، اذا به – صلى
الله عليه وسلم – يطا على حظوظ النفس وشهوة الانتقام، ويقول:
((بل استاني بهم؛ فاني ارجو ان يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله لا يشرك
به شيئا))  .
الفصل الخامس
التعامل مع الاخطاء
لم يكن المجتمع المسلم مجتمعا ملائكيا، وانما كان مجتمعا قرانيا، يعلمه رسول الله ويربيه على
المنهج القراني الفريد.
وقد كانت تحدث منه الاخطاء: صغيرها، وكبيرها، فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم –
يتعامل مع كل موقف، ومع كل خطا بما يناسبه، فليست كل الاخطاء سواء، وبالتالي لا
يكون العلاج واحدا.
اراد النبي الكريم ان يضع لنا منهجا نسترشد به في التعامل مع الاخطاء التي يقوم
بها افراد المجتمع، فعلمنا كيف نعلم الناس، متى نعفو عنهم، ومتى نعاقبهم، متى نتغافل، ومتى
نتوقف ونصحح، كما علمنا ان نستوثق من وقوع الخطا اولا؛ حتى لا نرمي الناس بالظنون،
فنحسن الظن بهم، ثم نقدم النصح والتوجيه المناسب لكل حالة.
ولنذكر هنا نوعين من الاخطاء تعامل معهما رسول الله وعلمنا كيف يكون العلاج معهما:
الاخطاء الفردية التي لا تؤثر الا على المخطئ:
وقد كان نهجه فيها – صلى الله عليه وسلم – الرفق والحلم، والعفو عمن اخطا
عن جهل او عن سوء فهم:
منها ذلك الموقف الذي حدث مع الاعرابي الذي بال في المسجد جاهلا انه بيت الله،
وانه مكان عبادة وصلاة!
جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوما في مجلسه المبارك يحدث اصحابه،
فبينما هم على ذلك، فاذا برجل يدخل الى المسجد، يلتفت يمينا ويسارا، فبدل ان ياتي
ويجلس في حلقة النبي – صلى الله عليه وسلم – توجه الى زاوية من زوايا
المسجد، ثم جعل يحرك ازاره! عجبا: ماذا سيفعل؟! رفع طرف ازاره من الامام، ثم جلس
بكل هدوء يبول، عجب الصحابة وثاروا: يبول في المسجد؟!
وجعلوا يتقافزون ليتوجهوا اليه والنبي – صلى الله عليه وسلم – يهدئهم ويسكن غضبهم، ويردد:
لا تزرموه، لا تعجلوا عليه، لا تقطعوا عليه بوله.
والنبي – صلى الله عليه وسلم – يرى هذا المنظر، بول في المسجد ويهدئ اصحابه!

حتى اذا انتهى الاعرابي من بوله، وقام يشد على وسطه ازاره، دعاه النبي – صلى
الله عليه وسلم – بكل رفق، اقبل يمشي حتى اذا وقف بين يديه، قال له
بكل رفق: ان هذه المساجد لم تبن لهذا، انما بنيت للصلاة وقراءة القران، ففهم الرجل
ذلك ومضى، فلما جاء وقت الصلاة، اقبل ذاك الاعرابي وصلى معهم، كبر النبي – صلى
الله عليه وسلم – باصحابه مصليا، فقرا ثم ركع، فلما رفع – صلى الله عليه
وسلم – من ركوعه، قال: سمع الله لمن حمده، فقال المامومون: ربنا ولك الحمد، الا
هذا الرجل قالها، وزاد بعدها: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا احدا!
وسمعه النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما انتهت الصلاة، التفت – صلى الله
عليه وسلم – اليهم وسالهم عن القائل، فاشاروا اليه، فناداه النبي – صلى الله عليه
وسلم – فلما وقف بين يديه، فاذا هو الاعرابي نفسه، وقد تمكن حب النبي –
صلى الله عليه وسلم – من قلبه، حتى ود لو ان الرحمة تصيبهما دون غيرهما،
فقال له – صلى الله عليه وسلم – معلما: لقد حجرت واسعا؛ اي: ان رحمة
الله تعالى تسعنا جميعا وتسع الناس، فلا تضيقها علي وعليك.
فانظر كيف ملك عليه قلبه؛ لانه عرف كيف يتصرف معه، فهو اعرابي اقبل من باديته،
لم يبلغ من العلم رتبة ابي بكر وعمر، ولا معاذ وعمار، فلا يؤاخذ كغيره .

وهذا معاوية بن الحكم السلمي، اتى المدينة يسال الرسول عن خاصة اموره ويتعلم منه، فيحدث
معه ذلك الموقف الذي يرويه:
قلت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم -: اني حديث عهد بجاهلية، فجاء الله
بالاسلام، وان رجالا منا يتطيرون، قال: ذلك يجدونه في صدورهم، فلا يصدنهم، قال: يا رسول
الله، ورجال منا ياتون الكهنة؟ قال: فلا ياتوهم، قال: يا رسول الله، ورجال منا يخطون؟
قال: كان نبي من الانبياء يخط، فمن وافق خطه، فذاك، قال: وبينا انا مع رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – في الصلاة اذ عطس رجل من القوم؛ فقلت:
يرحمك الله، فحدقني القوم بابصارهم، قال: فقلت: واثكل امياه! ما لكم تنظرون الي، فضرب القوم
بايديهم على افخاذهم، فلما رايتهم يسكتوني، لكني سكت، فلما انصرف رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – دعاني، فبابي هو وامي ما رايت معلما قبله ولا بعده احسن تعليما
منه، والله ما ضربني ولا كهرني ولا سبني، فقال: ان صلاتنا هذه لا يصلح فيها
شيء من كلام الناس، وانما هي التسبيح والتكبير وتلاوة القران .
هذا تعامله مع اعرابي بال في المسجد، ورجل تكلم في الصلاة، عاملهم مراعيا احوالهم؛ لان
الخطا من مثلهم لا يستغرب.
اخطاء تؤثر في الجميع:
تلك كانت اخطاء لا خوف منها على المجتمع، فعلم رسول الله اصحابها وارشدهم الى الصواب
في رفق وحلم، لكن هناك في المجتمع نوع اخر من الاخطاء لا يمكن السكوت عنه
ولا التغاضي عن اصحابه؛ لان لها اثرها الكبير في المجتمع، “وذلك كان يحدث خطا شرعي
من اشخاص لهم حيثية خاصة، او تجاوز الخطا حدود الفردية والجزئية، واخذ يمثل بداية فتنة
او انحراف عن المنهج، على ان هذا الغضب يكون غضبا توجيهيا، من غير اسفاف ولا
اسراف، بل على قدر الحاجة” .
امتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟
ولقد غضب رسول الله من عمر بن الخطاب – المبشر بالجنة – ولم يتساهل معه
عندما شعر بخطر يمكن ان يهدد الدين وثباته في قلوب اصحابه، وذلك حين اتاه عمر
ومعه نسخة من التوراة، ليقراها عليه – صلى الله عليه وسلم – فها هو جابر
– رضي الله عنه – يروي لنا ذلك الموقف:
اتى عمر بن الخطاب النبي – صلى الله عليه وسلم – بكتاب اصابه من بعض
اهل الكتاب، فقراه على النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: فغضب وقال: ((امتهوكون
فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسالوهم عن
شيء، فيخبروكم بحق، فتكذبوا به، او بباطل، فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو ان موسى
كان حيا، ما وسعه الا ان يتبعني))  .
كلمة واضحة لا تحتمل تاويلا، انها مرحلة لا زال القران يتنزل فيها، وان الرسول –
صلى الله عليه وسلم – حريص على الا يدخل الشك او الخلط قلوب اتباعه، فكان
النهي الصريح الواضح.
افتان انت يا معاذ؟!
ثم تراه – صلى الله عليه وسلم – يغضب من تطويل بعض اصحابه الصلاة، وهم
ائمة بعد ان كان – صلى الله عليه وسلم – نهى عن ذلك؛ لما فيه
من تعسير ومشقة، ولما يؤدي اليه من فتنة لبعض الضعفاء والمعذورين وذوي الاشغال، يوجه صحابته
الى تصحيح هذا الخطا؛ لانه قد ينفر الناس عن الدين، ويبعدهم عنه.
يروي لنا ابو مسعود الانصاري – رضي الله عنه – قال: قال رجل: يا رسول
الله، لا اكاد ادرك الصلاة مما يطول بنا فلان، فما رايت النبي – صلى الله
عليه وسلم – في موعظة اشد غضبا من يومئذ، فقال: ((ايها الناس، انكم منفرون، فمن
صلى بالناس فليخفف؛ فان فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة)) .
وها هو يقول الشيء نفسه لمعاذ – رضي الله عنه – فقد كان معاذ بن
جبل من اقرب الصحابة الى رسول الله، ومن اكثرهم حرصا على طلب العلم، فكان تعامل
النبي – صلى الله عليه وسلم – مع اخطائه مختلفا عن تعامله مع اخطاء غيره.

كان معاذ يصلي مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – العشاء، ثم يرجع
فيصلي بقومه العشاء اماما بهم في مسجدهم، فتكون الصلاة له نافلة ولهم فريضة، رجع معاذ
ذات ليلة لقومه ودخل مسجدهم، فكبر مصليا بهم، اقبل فتى من قومه ودخل معه في
الصلاة، فلما اتم معاذ الفاتحة، قال {ولا الضالين}، فقالوا: {امين}، ثم افتتح معاذ سورة البقرة،
كان الناس في تلك الايام يتعبون في العمل في مزارعهم ورعيهم دوابهم طوال النهار، ثم
لا يكادون يصلون العشاء حتى ياووا الى فرشهم، وقف هذا الشاب في الصلاة ومعاذ يقرا
ويقرا، فلما طالت الصلاة على الفتى، اتم صلاته وحده، وخرج من المسجد وانطلق الى بيته،
انتهى معاذ من الصلاة، فقال له بعض القوم: يا معاذ، فلان دخل معنا في الصلاة،
ثم خرج منها لما اطلت، فغضب معاذ، وقال: ان هذا به لنفاق، لاخبرن رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – بالذي صنع، فابلغوا ذلك الشاب بكلام معاذ، فقال الفتى:
وانا لاخبرن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالذي صنع، فغدوا على رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – فاخبره معاذ بالذي صنع الفتى، فقال الفتى: يا
رسول الله، يطيل المكث عندك، ثم يرجع فيطيل علينا الصلاة، والله يا رسول الله، انا
لنتاخر عن صلاة العشاء مما يطول بنا معاذ، فسال الله النبي – صلى الله عليه
وسلم – معاذا: ماذا تقرا؟!
فاذا بمعاذ يخبره انه يقرا بالبقرة، وجعل يعدد السور الطوال، فغضب النبي – صلى الله
عليه وسلم – لما علم ان الناس يتاخرون عن الصلاة بسبب الاطالة، وكيف صارت الصلاة
ثقيلة عليهم، فالتفت الى معاذ وقال: ((افتان انت يا معاذ؟! يعني تريد ان تفتن الناس
وتبغضهم في دينهم، اقرا ب {والسماء والطارق} [الطارق: 1]، {والسماء ذات البروج} [البروج: 1]، {والشمس
وضحاها} [الشمس: 1]، {والليل اذا يغشى} [الليل: 1] .
وقد غضب الرسول – صلى الله عليه وسلم – ايضا من اختصام الصحابة وتجادلهم في
القدر، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: خرج رسول
الله على اصحابه، وهم يختصمون في القدر، فكانما يفقا في وجهه حب الرمان من الغضب،
فقال: ((بهذا امرتم؟ او لهذا خلقتم؟ تضربون القران بعضه ببعض؟ بهذا هلكت الامم قبلكم)) .

اتكلمني في حد من حدود الله؟
اما ذلك الخطا، فهو اكبر من ان يتهاون فيه، او يسكت عنه؛ انه يتعلق بحد
من حدود الله!
قال عروة بن الزبير: ان امراة سرقت في عهد رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – في غزوة الفتح، ففزع قومها الى اسامة بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلما
كلمه اسامة فيها، تلون وجه رسول الله، فلما كان العشي، قام رسول الله خطيبا، فاثنى
على الله بما هو اهله، ثم قال: ((اما بعد، فانما اهلك الناس قبلكم انهم كانوا
اذا سرق فيهم الشريف تركوه، واذا سرق فيهم الضعيف، اقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد
بيده، لو ان فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها)) ، ثم امر رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – بتلك المراة، فقطعت يدها.
فحسنت توبتها بعد ذلك وتزوجت، قالت عائشة: فكانت تاتيني بعد ذلك، فارفع حاجتها الى رسول
الله – صلى الله عليه وسلم.
وهكذا يكون البناء التربوي للامة، حين نرى العدل في اقامة شرع الله على القريب والبعيد
على حد سواء، فالناس هنا امام تشريع رباني لا يفرق بين الناس، فهم كلهم امام
رب العالمين سواء، واصبحت معايير الشرف هي الالتزام باوامر الله تعالى، وفي هذا الموقف الذي
اثار غضب رسول الله الشديد واهتمامه الكبير – عبرة للمسلمين؛ حتى لا يتهاونوا في تنفيذ
احكام الله تعالى، او يشفعوا لدى الحاكم، من اجل تعطيل الحدود الاسلامية .
هلا شققت عن قلبه؟
وها هو موقف اخر يحدث مع اسامة بن زيد، وهو الحب بن الحب:
بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – اصحابه الى الحرقات من قبيلة جهينة، وكان
اسامة بن زيد من ضمن المقاتلين بالجيش، ابتدا القتال في الصباح، انتصر المسلمون وهرب مقاتلو
العدو، كان من بين جيش العدو رجل يقاتل، فلما راى اصحابه منهزمين، القى سلاحه وهرب،
فلحقه اسامة ومعه رجل من الانصار، ركض الرجل وركضوا خلفه وهو يشتد فزعا، حتى عرضت
لهم شجرة، فاحتمى الرجل بها، فاحاط به اسامة والانصاري، ورفعا عليه السيف، فلما راى الرجل
السيفين يلتمعان فوق راسه، واحس الموت يهجم عليه، انتفض وجعل يجمع ما تبقى من ريقه
في فمه، ويردد فزعا: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا عبده ورسوله،
تحير الانصاري واسامة: هل اسلم الرجل فعلا ام انها حيلة افتعلها؟
كانوا في ساحة قتال والامور مضطربة، يتلفتون حولهم، فلا يرون الا اجسادا ممزقة، وايادي مقطعة،
قد اختلط بعضها ببعض، الدماء تسيل، النفوس ترتجف، الرجل بين ايديهما ينظران اليه، لا بد
من الاسراع باتخاذ القرار، ففي اي لحظة قد ياتي سهم طائش او غير طائش، فيرديهما
قتيلين، لم يكن هناك مجال للتفكير الهادئ، فاما الانصاري، فكف سيفه، واما اسامة، فظن انها
حيلة، فضربه بالسيف حتى قتله، عادوا الى المدينة تداعب قلوبهم نشوة الانتصار.
وقف اسامة بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – وحكى له قصة المعركة،
واخبره بخبر الرجل وما كان منه، كانت قصة المعركة تحكي انتصارا للمسلمين، وكان – صلى
الله عليه وسلم – يستمع مبتهجا، لكن اسامة قال: ثم قتلته، فتغير النبي – صلى
الله عليه وسلم – وقال: ((قال: لا اله الا الله، ثم قتلته؟!))، قلت: يا رسول
الله، لم يقلها من قبل نفسه، انما قالها فرقا من السلاح، فقال – صلى الله
عليه وسلم -: ((قال: لا اله الا الله، ثم قتلته! هلا شققت عن قلبه؛ حتى
تعلم انه انما قالها فرقا من السلاح)).
وجعل – صلى الله عليه وسلم – يحد بصره الى اسامة، ويكرر: ((قال: لا اله
الا الله ثم قتلته! قال: لا اله الا الله ثم قتلته! ثم قتلته! كيف لك
بلا اله الا الله اذا جاءت تحاجك يوم القيامة!)).
وما زال – صلى الله عليه وسلم – يكرر ذلك على اسامة، قال اسامة: فما
زال يكررها علي حتى وددت اني لم اكن اسلمت الا يومئذ .
الفصل السادس
التعامل مع القادة والرموز
كان رسول الله يتعامل بفن مع القادة، فينزلهم منازلهم، ويعرف لهم قدرهم؛ لذلك كانوا حين
يتعاملون مع رسول الله، يدركون عظمة النبوة فيه، ويدخلون في هذا الدين العظيم الذي يعرف
لكل انسان قدره ومكانته.
ولننظر في تلك المواقف العملية؛ لنرى كيف تعامل الرسول مع بعض القادة والزعماء في قومهم:

ما مثل سهيل يجهل الاسلام:
قال سهيل بن عمرو: لما دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مكة
وظهر، انقحمت بيتي واغلقت علي بابي، وارسلت الى ابني عبدالله بن سهيل ان اطلب لي
جوارا من محمد، واني لا امن من ان اقتل، وجعلت اتذكر اثري عند محمد واصحابه،
فليس احد اسوا اثرا مني، واني لقيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
يوم الحديبية بما لم يلحقه احد، وكنت الذي كاتبته، مع حضوري بدرا واحدا، وكلما تحركت
قريش كنت فيها، فذهب عبدالله بن سهيل الى رسول الله فقال: يا رسول الله، تؤمنه؟
فقال: ((نعم))، هو امن بامان الله، فليظهر، ثم قال رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – لمن حوله: ((من لقي سهيل بن عمرو، فلا يشد النظر اليه، فليخرج، فلعمري
ان سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل يجهل الاسلام، ولقد راى ما كان يوضع
فيه انه لم يكن له بنافع))، فخرج عبدالله الى ابيه، فقال سهيل: كان والله برا،
صغيرا وكبيرا، فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج الى حنين مع النبي – صلى الله عليه
وسلم – وهو على شركه حتى اسلم بالجعرانة .
لقد كان لهذه الكلمات التربوية الاثر الكبير على سهيل بن عمرو؛ حيث اثنى على رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – بالبر طوال عمره، ثم دخل في الاسلام بعد
ذلك، وقد حسن اسلامه، وكان مكثرا من الاعمال الصالحة، يقول الزبير بن بكار: كان سهيل
بعد كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته الى الشام مجاهدا، ويقال: انه صام وتهجد؛ حتى
شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء اذا سمع القران، وكان اميرا على كردوس يوم اليرموك
.
ياتيكم عكرمة مهاجرا مؤمنا، فلا تسبوا اباه:
قال عبدالله بن الزبير – رضي الله عنه -: قالت ام حكيم امراة عكرمة بن
ابي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك الى اليمن، وخاف ان تقتله، فامنه،
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((هو امن))، فخرجت ام حكيم في
طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حي من
عك، فاستغاثتهم عليه فاوثقوه رباطا، وادركت عكرمة، وقد انتهى الى ساحل من سواحل تهامة، فركب
البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: اخلص، فقال: اي شيء اقول؟ قال: قل لا اله
الا الله، قال عكرمة: ما هربت الا من هذا، فجاءت ام حكيم على هذا الكلام،
فجعلت تلح عليه، وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند اوصل الناس، وابر الناس، وخير
الناس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتى ادركته، فقالت: اني قد استامنت لك محمدا رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – قال: انت فعلت؟ قالت: نعم، انا كلمته فامنك،
فرجع معها، وقال: ما لقيت من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره، فقتله عكرمة، وهو يومئذ لم
يسلم، فلما دنا من مكة، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لاصحابه:
((ياتيكم عكرمة بن ابي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبوا اباه، فان سب الميت يؤذي الحي
ولا يبلغ الميت)).
قال: وجعل عكرمة يطلب امراته يجامعها، فتابى عليه، وتقول: انك كافر وانا مسلمة، فيقول: ان
امرا منعك مني لامر كبير، فلما راى النبي – صلى الله عليه وسلم – عكرمة
وثب اليه وما على النبي – صلى الله عليه وسلم – رداء فرحا بعكرمة، ثم
جلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فوقف بين يديه، وزوجته منتقبة، فقال:
يا محمد، ان هذه اخبرتني انك امنتني، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم
-: ((صدقت، فانت امن))، فقال عكرمة: فالام تدعو يا محمد؟ قال: ((ادعوك الى ان تشهد
ان لا اله الا الله، واني رسول الله، وان تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتفعل وتفعل))،
حتى عد خصال الاسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت الا الى الحق، وامر حسن جميل،
قد كنت والله فينا قبل ان تدعو الى ما دعوت اليه وانت اصدقنا حديثا، وابرنا
برا، ثم قال عكرمة: فاني اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا عبده
ورسوله، فسر بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ثم قال: يا رسول
الله، علمني خير شيء اقوله، قال: ((تقول: اشهد ان لا اله الا الله، وان محمدا
عبده ورسوله))، قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:
((تقول: اشهد الله واشهد من حضر اني مسلم مهاجر ومجاهد))، فقال عكرمة ذلك.
فقال رسول الله: ((لا تسالني اليوم شيئا اعطيه احدا، الا اعطيتكه))، فقال عكرمة: فاني اسالك
ان تستغفر لي كل عداوة عاديتكها، او مسير وضعت فيه، او مقام لقيتك فيه، او
كلام قلته في وجهك، او وانت غائب عنه، فقال رسول الله – صلى الله عليه
وسلم -: ((اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها، وكل مسير سار فيه الى موضع يريد
بذلك المسير اطفاء نورك، فاغفر له ما نال مني من عرض: في وجهي، او وانا
غائب عنه))، فقال عكرمة: رضيت يا رسول الله، لا ادع نفقة كنت انفقها في صد
عن سبيل الاسلام، الا انفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قتالا كنت اقاتل في صد
عن سبيل الله، الا ابليت ضعفه في سبيل الله، ثم اجتهد في القتال حتى قتل
شهيدا.
وبعد ان اسلم رد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – امراته له بذلك
النكاح الاول.
كان سلوك النبي – صلى الله عليه وسلم – في تعامله مع عكرمة لطيفا حانيا،
يكفي وحده لاجتذابه الى الاسلام، فقد اعجل نفسه عن لبس ردائه، وابتسم له ورحب به،
وفي رواية قال له: ((مرحبا بالراكب المهاجر))، فتاثر عكرمة من ذلك الموقف، فاهتزت مشاعره وتحركت
احاسيسه، فاسلم، كما كان لموقف ام حكيم بنت الحارث بن هشام اثر في اسلام زوجها،
فقد اخذت له الامان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وغامرت بنفسها
تبحث عنه لعل الله يهديه الى الاسلام كما هداها اليه، وعندما ارادها زوجها امتنعت عنه،
وعللت ذلك بانه كافر وهي مسلمة، فعظم الاسلام في عينه، وادرك انه امام دين عظيم،
وهكذا خطت ام حكيم في فكر عكرمة بداية التفكير في الاسلام، ثم توج باسلامه بين
يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وكان صادقا في اسلامه، فلم يطلب
من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دنيا، وانما ساله ان يغفر الله
تعالى له كل ما وقع فيه من ذنوب ماضية، ثم اقسم امام النبي – صلى
الله عليه وسلم – بان يحمل نفسه على الانفاق في سبيل الله تعالى بضعف ما
كان ينفق في الجاهلية، وان يبلي في الجهاد في سبيل الله بضعف ما كان يبذله
في الجاهلية، ولقد بر بوعده، فكان من اشجع المجاهدين والقادة في سبيل الله  تعالى في
حروب الردة، ثم في فتوح الشام، حتى وقع شهيدا في معركة اليرموك، بعد ان بذل
نفسه وماله في سبيل الله .
ما عندك يا ثمامة:
وهنا موقف يوضح لنا رفق الرسول وحرصه على دعوة القادة وتاليف قلوبهم دون غلظة او
اذلال، وهنا نرى كيف كان رد فعل ثمامة بعد ان عامله الرسول – صلى الله
عليه وسلم – بالحسنى والقول الطيب:
كانت اول حملة عسكرية وجهها النبي – صلى الله عليه وسلم – لتاديب خصومه بعد
غزوة الاحزاب، هي تلك الحملة التي جردها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب،
الذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضربة، على مسافة سبع ليال من المدينة، ففي اوائل شهر
المحرم عام خمسة للهجرة، وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة، وجه –
صلى الله عليه وسلم – سرية من ثلاثين من اصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن
الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة
6ه، وقد داهموهم على حين غرة، فقتلوا منهم عشرة وفر الباقون، وغنم المسلمون ابلهم وماشيتهم،
وفي طريق عودتهم اسروا ثمامة بن اثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه، فقدموا
به المدينة، وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج اليه النبي – صلى الله عليه وسلم
– فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، ان تقتلني، تقتل ذا
دم، وان تنعم، تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال، فسل منه ما شئت، فتركه
حتى كان الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك، ان تنعم،
تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال عندي
ما قلت لك، فقال: اطلقوا ثمامة، فانطلق الى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل
المسجد، فقال: اشهد ان لا اله الا الله، واشهد ان محمدا رسول الله، يا محمد،
والله ما كان على الارض وجه ابغض الي من وجهك، فقد اصبح وجهك احب الوجوه
الي، والله ما كان دين ابغض الي من دينك، فاصبح دينك احب الدين الي، والله
ما كان بلد ابغض الي من بلدك، فاصبحت بلدك احب البلاد الي، وان خيلك اخذتني
وانا اريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وامره
ان يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله، ولكني اسلمت مع
محمد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا والله، لا ياتيكم من اليمامة
حبة حنطة؛ حتى ياذن فيها النبي – صلى الله عليه وسلم .
وقد ابر بقسمه؛ مما دفع وجوه مكة الى ان يكتبوا الى رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – يسالونه بارحامهم ان يكتب الى ثمامة؛ ليخلي لهم حمل الطعام، فاستجاب
النبي – صلى الله عليه وسلم – لرجاء قومه بالرغم انه في حالة حرب معهم،
وكتب الى سيد بني حنيفة ثمامة: ان خل بين قومي وبين ميرتهم، فامتثل ثمامة امر
نبيه، وسمح لبني حنيفة باستئناف ارسال المحاصيل الى مكة، فارتفع عن اهلها كابوس المجاعة .

يا عدي بن حاتم، اسلم، تسلم:
عندما وقعت اخت عدي بن حاتم في اسر المسلمين، عاملها رسول الله معاملة كريمة، وبقيت
معززة مكرمة، ثم كساها النبي – صلى الله عليه وسلم – واعطاها ما تتبلغ به
في سفرها، وعندما وصلت الى اخيها في الشام، شجعته على الذهاب لرسول الله – صلى
الله عليه وسلم – فتاثر بنصيحتها وقدم على المدينة .
ونترك ابا عبيدة بن حذيفة يحدثنا عن قصة اسلام عدي:
قال ابو عبيدة بن حذيفة: كنت احدث عن عدي بن حاتم، فقلت: هذا عدي في
ناحية الكوفة، فلو اتيته فكنت انا الذي اسمع منه، فاتيته فقلت: اني كنت احدث عنك
حديثا، فاردت ان اكون انا الذي اسمعه منك، قال: لما بعث الله عز وجل النبي
– صلى الله عليه وسلم – فررت منه حتى كنت في اقصى ارض المسلمين مما
يلي الروم، قال: فكرهت مكاني الذي انا فيه حتى كنت اشد كراهية له مني من
حيث جئت، قال: قلت: لاتين هذا الرجل، فوالله ان كان صادقا، فلاسمعن منه، وان كان
كاذبا، ما هو بضائري، قال: فاتيته واستشرفني الناس، وقالوا: عدي بن حاتم، عدي بن حاتم،
قال: اظنه قال ثلاث مرار، قال: فقال لي: يا عدي بن حاتم، اسلم، تسلم، قال:
قلت: اني من اهل دين، قال: يا عدي بن حاتم، اسلم، تسلم، قال: قلت: اني
من اهل دين، قالها ثلاثا، قال: ((انا اعلم بدينك منك))، قال: قلت: انت اعلم بديني
مني؟ قال: ((نعم)) قال: ((اليس تراس قومك؟)) قال: قلت: بلى، قال: فذكر محمد الركوسية ،
قال كلمة التمسها يقيمها فتركها، قال: فانه لا يحل في دينك المرباع .
قال: فلما قالها، تواضعت لها، قال: ((واني قد ارى ان مما يمنعك خصاصة تراها ممن
حولي، وان الناس علينا البا واحدا، هل تعرف مكان الحيرة؟)) قال: قلت: قد سمعت بها
ولم اتها، قال: ((لتوشكن الظعينة ان تخرج منها بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، ولتوشكن كنوز
كسرى بن هرمز تفتح))، قال: قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى بن هرمز – ثلاث
مرات – وليوشكن ان يبتغي من يقبل ماله منه صدقة، فلا يجد))، قال: فلقد رايت
اثنتين، قد رايت الظعينة تخرج من الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالكعبة، وكنت في الخيل
التي اغارت على المدائن، وايم الله، لتكونن الثالثة؛ انه لحديث رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – حدثنيه .
وفي رواية جاء فيه: فخرجت حتى اقدم على رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– المدينة، فدخلت عليه، وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: ((من الرجل؟))، فقلت: عدي بن
حاتم، فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فانطلق بي الى بيته، فوالله
انه لعامد بي اليه، اذ لقيته امراة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في
حاجتها، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك، قال: ثم مضى بي رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – حتى اذا دخل بي بيته، تناول وسادة من ادم
محشوة ليفا، فقذفها الي، فقال: ((اجلس على هذه))، قال: قلت: بل انت فاجلس عليها، فقال:
((بل انت))، فجلست عليها، وجلس رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالارض، قال:
قلت في نفسي: والله ما هذا بامر ملك .
كان النبي – صلى الله عليه وسلم – موفقا في دعوته؛ حيث كان خبيرا بادواء
النفوس ودوائها، ومواطن الضعف فيها، وازمة قيادها، فكان يلائم كل انسان بما يلائم علمه وفكره،
وما ينسجم مع مشاعره واحاسيسه؛ ولذلك اثر في زعماء القبائل، ودخل الناس في دين الله
افواجا .
باذان بن ساسان:
لما اسلم باذان بن ساسان وكان اميرا على اليمن، لم يعزله رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – بل ابقاه اميرا عليها بعد اسلامه، حين راى فيه الاداري الناجح
والحاكم المناسب؛ مما يدلل على ان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يقدر الكفاءات
في الرجال، ويضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومن الجدير بالذكر ان الرسول – صلى
الله عليه وسلم – قد ولى ولده شهرا اميرا على اليمن بعد موته .
الفصل السابع
التعامل مع الازمات
ها هو مجتمع المدينة الذي وضع له الرسول والقائد العظيم دستورا، فعلم الناس كيف يتعاملون
مع غيرهم من اهل الكتاب الذين يجاورونهم، ومع المنافقين الذين يتربصون لهم، تحدث فيه ايضا
الازمات والفتن، ولقد اراد الله ذلك لتكون دروسا واضحة لنا، نسترشد بها ونستلهم منهج التعامل
معها، فلا نقف مكتوفي الايدي عاجزين عن الفعل والحركة، ولقد كانت اشد تلك الازمات تلك
الفتن التي قامت وسعى لها المنافقون، يريدون ان تنهدم الدولة ويقاتل المسلمون بعضهم بعضا.
فتنة الاوس والخزرج:
فبينا المسلمون على ماء المريسيع، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب اجير له من
بني غفار، يقال له جهجاه بن مسعود، يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني
الخزرجي، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الانصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين؛ فغضب عبدالله بن
ابي بن سلول، وقال قولته: اما والله: {لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل}
[المنافقون: 8]، ثم اقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بانفسكم،
احللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم اموالكم، اما والله، لو امسكتم عنهم ما بايديكم، لتحولوا الى غير داركم،
فسمع ذلك زيد بن ارقم، فمشى به الى رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– وذلك عند فراغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عدوه، فاخبره
الخبر، وعنده عمر بن الخطاب، فقال: مر به عباد بن بشر، فليقتله، فقال له رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – : ((فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان
محمدا يقتل اصحابه، لا، ولكن اذن بالرحيل))، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – يرتحل فيها، فارتحل الناس.
وقد مشى عبدالله بن ابي بن سلول الى رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– حين بلغه ان زيد بن ارقم قد بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما
قلت ما قال، ولا تكلمت به.
وكان في قومه شريفا عظيما، فقال من حضر رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– من الانصار من اصحابه: يا رسول الله، عسى ان يكون الغلام قد اوهم في
حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل؛ حدبا على ابن ابي بن سلول، ودفعا عنه.
ولما التقى النبي – صلى الله عليه وسلم – باسيد بن حضير، قال له رسول
الله – صلى الله عليه وسلم -: ((او ما بلغك ما قال صاحبكم؟))، قال: واي
صاحب يا رسول الله؟ قال: ((عبدالله بن ابي))؛ قال: وما قال؟ قال: ((زعم انه ان
رجع الى المدينة، ليخرجن الاعز منها الاذل))، قال: فانت يا رسول الله، والله تخرجه منها
ان شئت، هو والله الذليل وانت العزيز، ثم قال يا رسول الله: ارفق به، فوالله
لقد جاءنا الله بك، وان قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فانه ليرى انك قد استلبته
ملكا.
ثم مشى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالناس يومهم ذلك حتى امسى،
وليلتهم حتى اصبح، وصدر يومهم ذلك حتى اذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا ان
وجدوا مس الارض، فوقعوا نياما، وانما فعل ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالامس من حديث عبدالله بن ابي، وجاء عبدالله
بن عبدالله بن ابي الى النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول
الله، انه بلغني انك تريد قتل عبدالله بن ابي فيما بلغك عنه، فان كنت لا
بد فاعلا، فمرني به، فانا احمل اليك راسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها
من رجل ابر بوالده مني، واني اخشى ان تامر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي
انظر الى قاتل عبدالله بن ابي يمشي في الناس، فاقتله فاقتل مؤمنا بكافر، فادخل النار،
فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ((بل نترفق به، ونحسن صحبته ما
بقي معنا))  .
وجعل بعد ذلك اذا احدث الحدث، كان قومه هم الذين يعاتبونه، وياخذونه، ويعنفونه، فقال رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شانهم:
((كيف ترى يا عمر! اما والله لو قتلته يوم قلت لي: اقتله، لارعدت له انوف
لو امرتها اليوم بقتله، لقتلته))، قال عمر: قد والله علمت لامر رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – اعظم بركة من امري .
وهي قصة تظهر لك حكمة منقطعة النظير، بعد نظر وصبر؛ فبحكمته – صلى الله عليه
وسلم – جنى تعاطف عشيرة ابن ابي، وفي بعد نظره رايت ما قال عمر، وفي
صبره رايت كيف سكت حتى تكلم القران، ففضح عدو الله ابن ابي.
حديث الافك:
وتلك فتنة اخرى اعترضت طريق المؤمنين؛ كي تعلمهم وتعلمنا دروسا في التعامل مع الازمات التي
تهدد سلامة المجتمع، وتريد ان تفكك بنيانه، وتمزق اوصاله:
ونترك امنا الطاهرة عائشة – رضي الله عنها – تقص القصة، فتقول:
1- كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – اذا اراد سفرا اقرع بين
ازواجه، فايهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله معه، فاقرع بيننا في غزوة غزاها –
هي هذه الغزوة – فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – بعد ما انزل الحجاب، فكنت احمل في هودجي، وانزل فيه، فسرنا.
2- حتى اذا فرغ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غزوته تلك،
وقفل، دنونا من المدينة قافلين، اذن ليلة بالرحيل، فقمت – حين اذنوا بالرحيل – فمشيت
حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شاني، اقبلت الى رحلي، فلمست صدري، فاذا عقد لي من
“جزع ظفار” قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه، واقبل الرهط الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا
هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت اركب عليه، وهم يحسبون اني فيه، وكان النساء اذ
ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، انما ياكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم
خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد
ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت
به، وظننت انهم سيفقدونني، فيرجعون الي.
3- فبينا انا جالسة في منزلي، غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم
الذكواني، من وراء الجيش، فاصبح عند منزلي، فراى سواد انسان نائم، فعرفني حين راني، وكان
راني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، ووالله ما تكلمنا بكلمة، ولا
سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى اناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت اليها فركبتها،
فانطلق يقود بي الراحلة حتى اتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، فهلك من
هلك، وكان الذي تولى كبر الافك عبدالله بن ابي بن سلول.
4- فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول اصحاب الافك، لا اشعر
بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي اني لا اعرف من رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – اللطف الذي كنت ارى منه حين اشتكي، انما يدخل علي رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – فيسلم، ثم يقول: ((كيف تيكم، ثم ينصرف، فذلك
يريبني ولا اشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع ام مسطح قبل المناصع وكان
متبرزنا، وكنا لا نخرج الا ليلا الى ليل، وذلك قبل ان نتخذ الكنف قريبا من
بيوتنا، فانطلقت انا وام مسطح – وهي ابنة ابي رهم بن المطلب بن عبد مناف،
وامها بنت صخر بن عامر خالة ابي بكر الصديق، وابنها مسطح بن اثاثة بن عباد
بن المطلب – فاقبلت انا وام مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شاننا، فعثرت ام
مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح، فقلت: لها بئس ما قلت، اتسبين رجلا شهد بدرا،
فقالت: اي هنتاه! ولم تسمعي ما قال؟ قلت: ما قال؟ فاخبرتني بقول اهل الافك، فازددت
مرضا على مرضي.
5- فلما رجعت الى بيتي، دخل علي رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
فسلم، ثم قال: ((كيف تيكم؟))، فقلت له: اتاذن لي ان اتي ابوي، فاذن لي رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت: لامي :يا امتاه ماذا يتحدث الناس؟ قالت:
يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امراة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر،
الا كثرن عليها! فقلت: سبحان الله! اوقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى اصبحت،
لا يرقا لي دمع، ولا اكتحل بنوم، ثم اصبحت ابكي.
6- ودعا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – علي بن ابي طالب واسامة
بن زيد حين استلبث الوحي، يسالهما ويستشيرهما في فراق اهله، فاما اسامة، فاشار على رسول
الله – صلى الله عليه وسلم – بالذي يعلم من براءة اهله، وبالذي يعلم لهم
في نفسه، فقال اسامة: اهلك ولا نعلم الا خيرا، واما علي، فقال: يا رسول الله،
لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعا رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – بريرة، فقال: اي بريرة، هل رايت من شيء يريبك؟ قالت له
بريرة: والذي بعثك بالحق ما رايت عليها امرا قط اغمصه، غير انها جارية حديثة السن
تنام عن عجين اهلها، فتاتي الداجن فتاكله!
7- فقام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من يومه، فاستعذر من عبدالله
بن ابي – وهو على المنبر – فقال: ((يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل
قد بلغني عنه اذاه في اهلي، والله ما علمت على اهلي الا خيرا، ولقد ذكروا
رجلا ما علمت عليه الا خيرا، وما يدخل على اهلي الا معي، فقام سعد بن
معاذ الاوسي، فقال: انا يا رسول الله اعذرك، فان كان من الاوس ضربت عنقه، وان
كان من اخواننا من الخزرج، امرتنا ففعلنا امرك، فقام رجل من الخزرج – وهو سعد
بن عبادة – وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال
لسعد: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما
احببت ان يقتل، فقام اسيد بن حضير وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة:
كذبت لعمر الله لنقتلنه؛ فانك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الاوس والخزرج حتى هموا
ان يقتتلوا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – قائم على المنبر، فلم يزل
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
8- فبكيت يومي ذلك كله، لا يرقا لي دمع، ولا اكتحل بنوم، واصبح ابواي عندي،
وقد بكيت ليلتين ويوما، لا يرقا لي دمع، ولا اكتحل بنوم، حتى اني لاظن ان
البكاء فالق كبدي، فبينا ابواي جالسان عندي وانا ابكي، فاستاذنت علي امراة من الانصار، فاذنت
لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك، دخل رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – علينا فسلم ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد
لبث شهرا لا يوحى اليه في شاني بشيء، فتشهد رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – حين جلس، ثم قال: ((اما بعد يا عائشة، انه بلغني عنك كذا وكذا،
فان كنت بريئة، فسيبرئك الله، وان كنت الممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي اليه، فان العبد
اذا اعترف، ثم تاب، تاب الله عليه))، فلما قضى رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – مقالته، قلص دمعي، حتى ما احس منه قطرة، فقلت لابي: اجب رسول الله
– صلى الله عليه وسلم – عني فيما قال، فقال ابي: والله ما ادري ما
اقول لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت لامي: اجيبي رسول الله –
صلى الله عليه وسلم – فيما قال، قالت امي: والله ما ادري ما اقول لرسول
الله – صلى الله عليه وسلم – فقلت – وانا جارية حديثة السن، لا اقرا
من القران كثيرا -: اني والله قد عرفت انكم قد سمعتم بذاك، حتى استقر في
انفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: اني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بامر –
والله يعلم اني منه بريئة – لتصدقوني، فوالله، لا اجد لي ولكم مثلا الا ابا
يوسف حين قال: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18]، ثم تحولت، واضطجعت
على فراشي.
9- والله يعلم اني حينئذ بريئة، وان الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت اظن
ان الله منزل في شاني وحيا يتلى، لشاني في نفسي كان احقر من ان يتكلم
الله في بامر، ولكن كنت ارجو ان يرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم
– في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – مجلسه ولا خرج احد من اهل البيت حتى انزل عليه، فاخذه ما
كان ياخذه من البرحاء، حتى انه ليتحدر منه من العرق مثل الجمان، وهو في يوم
شات من ثقل القول الذي انزل عليه، فسري عن رسول الله – صلى الله عليه
وسلم – وهو يضحك، فكانت اول كلمة تكلم بها ان قال: ((يا عائشة، اما الله،
فقد براك))، فقالت لي امي: قومي اليه، فقلت: والله لا اقوم اليه، فاني لا احمد
الا الله – عز وجل – وانزل الله – تعالى -: {ان الذين جاءوا بالافك
عصبة منكم} [النور: 11]، العشر الايات، ثم انزل الله هذا في براءتي.
10- قال ابو بكر الصديق – وكان ينفق على مسطح بن اثاثة لقرابته منه وفقره
-: والله، لا انفق على مسطح شيئا ابدا بعد الذي قال لعائشة ما قال، فانزل
الله:
{ولا ياتل اولو الفضل منكم والسعة ان يؤتوا اولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله
وليعفوا وليصفحوا الا تحبون ان يغفر الله لكم والله غفور رحيم} [النور: 22].
قال ابو بكر الصديق: بلى والله، اني لاحب ان يغفر الله لي، فارجع الى مسطح
النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا انزعها منه ابدا.
11- وكان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – سال زينب بنت جحش عن
امري، فقال لزينب: ((ماذا علمت او رايت؟))، فقالت: يا رسول الله، احمي سمعي وبصري، والله
ما علمت الا خيرا!
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من ازواج النبي – صلى الله عليه وسلم –
فعصمها الله بالورع، وطفقت اختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك)) .
الفصل التاسع
كيفية التعليم
اذا اردنا منهجا متميزا في تعليم الناس او دعوتهم الى الحق، فلن نجد اعظم ولا
افضل من المنهج النبوي الفريد في التعليم والتربية، وهي ليست كلمات نظرية كتلك التي نقرؤها
في كتب التربية، ومناهج التدريس، بل هي مواقف عملية ودروس تربوية، تصلح ان تكون فنا
او اصولا يتبعها المربون لاصلاح وتربية الصغار والكبار على السواء.
ولنتامل بعضا من طرق ووسائل تعليمه – صلى الله عليه وسلم – لامته:
لله ارحم بعباده من هذه بولدها:
كان – صلى الله عليه وسلم – تحدث امامه احداث معينة، فينتهز مشابهة ما يرى
لمعنى معين يريد تعليمه للصحابة، ومشاكلته لتوجيه مناسب يريد بثه لاصحابه، وعندئذ يكون هذا المعنى،
وذلك التوجيه اوضح ما يكون في نفوسهم – رضوان الله عليهم – ومن ذلك ما
رواه عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: قدم على النبي – صلى
الله عليه وسلم – سبي، فاذا امراة في السبي قد تحلب ثدياها تسعى، اذا وجدت
صبيا في السبي، اخذته فالصقته ببطنها، وارضعته، فقال لنا النبي – صلى الله عليه وسلم
-: ((اترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قلنا: لا، وهي تقدر على الا تطرحه، فقال:
((لله ارحم بعباده من هذه بولدها)) .
“فانتهز – صلى الله عليه وسلم – المناسبة القائمة بين يديه مع اصحابه، المشهود فيها
حنان الام الفاقدة على رضيعها اذ وجدته، وضرب بها المشاكلة والمشابهة برحمة الله – تعالى
– ليعرف الناس رحمة رب الناس بعباده” .
انما انا لكم بمنزلة الوالد:
ان استعمال لطيف الخطاب ورقيق العبارات، يؤلف القلوب، ويستميلها الى الحق، ويدفع المستمعين الى الوعي
والحفظ، فقد كان – صلى الله عليه وسلم – يمهد لكلامه وتوجيهه بعبارة لطيفة رقيقة،
وبخاصة اذا كان بصدد تعليمهم ما قد يستحيا من ذكره، كما فعل عند تعليمهم اداب
الجلوس لقضاء الحاجة؛ اذ قدم لذلك بانه مثل الوالد للمؤمنين، يعلمهم شفقة بهم، فقد قال
– صلى الله عليه وسلم -: ((انما انا لكم بمنزلة الوالد اعلمكم؛ فاذا اتى احدكم
الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ولا يستطب بيمينه)) .
لقد راعى المعلم الاول – صلى الله عليه وسلم – جملة من المبادئ التربوية الكريمة،
كانت غاية في السمو الخلقي والكمال العقلي – وذلك في تعليقه على ما صدر من
بعض الصحابة – جعلت التوجيه يستقر في قلوبهم، وبقي ماثلا امام بصائرهم؛ لما ارتبط به
من معان تربوية كريمة  .
ارايتم ((التعليم بالمحاورة)):
انه يريد لفت انظارهم الى ان كل حركة يتحركونها، وكل عمل يقومون به، حتى ما
يرون انه من العادات او من دواعي الغريزة – يجب استغلاله للتزود لذلك اليوم، وكان
– صلى الله عليه وسلم – يسعى دائما لترسيخ تلك المعاني في نفوس الصحابة ،
فنراه يقول في موطن اخر: ((وفي بضع احدكم صدقة)) قالوا: يا رسول الله، اياتي احدنا
شهوته ويكون له فيها اجر؟ قال: ((ارايتم لو وضعها في حرام، اكان عليه فيها وزر؟
فكذلك اذا وضعها في الحلال كان له اجر)) .
ويقول في موطن ثالث: ((وانك مهما انفقت من نفقة، فانها صدقة، حتى اللقمة التي ترفعها
الى في امراتك)) .
ما بال اقوام:
من هدي رسول الله: الا يستخدم القول المباشر في تعليم الناس، انما يخاطبهم بعموم القول؛
كيلا يشعر احد بالحرج، وتهتز ثقته بنفسه، وينعزل عن جماعته واخوته وامته؛ لذا كان رسول
الله يستخدم ذلك القول اللطيف في كثير من الاحيان: ((ما بال اقوام)).
ولنر كيف رد الرسول وعلم صحابته وردهم الى الصواب بذلك الاسلوب الذي لا يتعمد اساءة
او تخصيصا لاحد بالذنب؛ لما في ذلك من مراعاة شعور المخطئ، والتاكيد على عموم التوجيه.

حدث هذا في مواقف عدة، اشهرها: عندما جاء نفر من الصحابة يريدون معرفة كيفية عبادة
النبي – صلى الله عليه وسلم – وصلاته، فسالوا ازواج النبي – صلى الله عليه
وسلم – عن عمله في السر، فاخبرتهم زوجات النبي – صلى الله عليه وسلم –
انه يصوم احيانا ويفطر احيانا، وينام بعضا من الليل، ويصلي بعضه، فقال بعضهم لبعض: هذا
رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد غفر الله له ما تقدم من
ذنبه، ثم اتخذ كل واحد منهم قرارا!
فقال احدهم: انا لن اتزوج، وقال الاخر: وانا ساصوم دائما، وقال الثالث: وانا لا انام
الليل.
فبلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – ما قالوه، فقام على منبره، فحمد الله
واثنى عليه، ثم قال:
ما بال اقوام، ((هكذا مبهما، لم يقل ما بال فلان وفلان)).
((ما بال اقوام قالوا: كذا وكذا، لكني اصلي، وانام، واصوم، وافطر، واتزوج النساء، فمن رغب
عن سنتي، فليس مني)) .
لينتهن عن ذلك!
وفي يوم اخر لاحظ النبي – صلى الله عليه وسلم – ان رجالا من المصلين
معه يرفعون ابصارهم الى السماء في اثناء صلاتهم، وهذا خطا؛ فالاصل ان ينظر احدهم الى
موضع سجوده، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((ما بال اقوام يرفعون ابصارهم الى
السماء في صلاتهم))، فلم ينتهوا عن ذلك واستمروا يفعلونه، فلم يفضحهم او يسمهم باسمائهم، وانما
قال: ((لينتهن عن ذلك، او لتخطفن ابصارهم)) .
اللهم بلغت:
ومن ذلك ما حدث مع عبدالله بن اللتبية حين استعمله النبي – صلى الله عليه
وسلم – على صدقات بني سليم، فقبل الهدايا من المتصدقين، فعن ابي حميد الساعدي قال:
استعمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رجلا على صدقات بني سليم، يدعى:
ابن اللتبية، فلما جاء حاسبه، فقال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله – صلى
الله عليه وسلم -: ((فهلا جلست في بيت ابيك وامك، حتى تاتيك هديتك ان كنت
صادقا؟))، ثم خطبنا، فحمد الله، واثنى عليه، ثم قال: ((اما بعد، فاني استعمل الرجل منكم
على العمل مما ولاني الله، فياتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية اهديت لي، افلا جلس
في بيت ابيه وامه حتى تاتيه هديته؟ والله لا ياخذ احد منكم شيئا بغير حقه
الا لقي الله بحمله يوم القيامة، فلا اعرفن احدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له
رغاء، او بقرة لها خوار، او شاة تيعر))، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض ابطيه،
يقول: ((اللهم بلغت)) بصر عيني، وسمع اذني .
اتحبه لامك:
ولننظر الى طريقته التربوية الرائعة التي يجب ان تكون منهاجا في التعامل مع الشباب والمراهقين،
حين جاءه شاب يريد ان ياذن له في الزنا، انها طريقة الحوار والمصارحة، والتي نغفل
عنها كثيرا في تعاملنا ودعوتنا للاخرين:
لقد اتى فتى شاب النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال: يا رسول الله،
ائذن لي بالزنا، فاقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه، مه، فقال: ادنه، فدنا منه قريبا،
قال: فجلس، قال: اتحبه لامك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه
لامهاتهم، قال: افتحبه لابنتك، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: ولا
الناس يحبونه لبناتهم، قال: افتحبه لاختك، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس
يحبونه لاخواتهم، قال: افتحبه لعمتك، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه
لعماتهم، قال: افتحبه لخالتك، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم،
قال: فوضع يده عليه، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد
ذلك الفتى يلتفت الى شيء .
هكذا كانت طريقته – صلى الله عليه وسلم – مليئة بالحب والرحمة والشفقة بامته وبجميع
البشر.
فسلاما وصلاة عليك ايها المبعوث رحمة للعالمين، وجعلنا نسير على خطاك؛ كي نكون من اهل
الفلاح في الدنيا والاخرة.

  • دم مدرس متزرم
  • الاتحبون ان يذهب الناس ب وتذهبون برسول الله؟
  • كيف كان الرسول يقود الناس في الغزوات
السابق
قصص عالمية مكتوبة
التالي
تحميل اناشيد العفاسي الجديدة mp3