تفسير سورة ابراهيم عليه الصلاة والسلام عدد اياتها 52 ( اية 1-26 )
وهي مكية
{ 1 – 3 } { الر كتاب انزلناه اليك لتخرج الناس من الظلمات الى
النور باذن ربهم الى صراط العزيز الحميد * الله الذي له ما في السماوات وما
في الارض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحياة الدنيا على الاخرة ويصدون
عن سبيل الله ويبغونها عوجا اولئك في ضلال بعيد }
يخبر تعالى انه انزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج
الناس من ظلمات الجهل والكفر والاخلاق السيئة وانواع المعاصي الى نور العلم والايمان والاخلاق الحسنة،
وقوله: { باذن ربهم } اي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله، الا بارادة من
الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم.
ثم فسر النور الذي يهديهم اليه هذا الكتاب فقال: { الى صراط العزيز الحميد }
اي: الموصل اليه والى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به، وفي ذكر {
العزيز الحميد } بعد ذكر الصراط الموصل اليه اشارة الى ان من سلكه فهو عزيز
بعز الله قوي ولو لم يكن له انصار الا الله، محمود في اموره، حسن العاقبة.
وليدل ذلك على ان صراط الله من اكبر الادلة على ما لله من صفات الكمال،
ونعوت الجلال، وان الذي نصبه لعباده، عزيز السلطان، حميد في اقواله وافعاله واحكامه، وانه مالوه
معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم، وانه كما ان له ملك السماوات والارض خلقا
ورزقا وتدبيرا، فله الحكم على عباده باحكامه الدينية، لانهم ملكه، ولا يليق به ان يتركهم
سدى، فلما بين الدليل والبرهان توعد من لم ينقد لذلك، فقال: { وويل للكافرين من
عذاب شديد } لا يقدر قدره، ولا يوصف امره، ثم وصفهم بانهم { الذين يستحبون
الحياة الدنيا على الاخرة } فرضوا بها واطمانوا، وغفلوا عن الدار الاخرة.
{ ويصدون } الناس { عن سبيل الله } التي نصبها لعباده وبينها في كتبه
وعلى السنة رسله، فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة، { ويبغونها } اي: سبيل الله
{ عوجا } اي: يحرصون على تهجينها وتقبيحها، للتنفير عنها، ولكن يابى الله الا ان
يتم نوره ولو كره الكافرون.
{ اولئك } الذين ذكر وصفهم { في ضلال بعيد } لانهم ضلوا واضلوا، وشاقوا
الله ورسوله وحاربوهما، فاي ضلال ابعد من هذا؟” واما اهل الايمان فبعكس هؤلاء يؤمنون بالله
واياته، ويستحبون الاخرة على الدنيا ويدعون الى سبيل الله ويحسنونها مهما امكنهم، ويبينون استقامتها.
{ 4 } { وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله
من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم }
وهذا من لطفه بعباده انه ما ارسل رسولا { الا بلسان قومه ليبين لهم }
ما يحتاجون اليه، ويتمكنون من تعلم ما اتى به، بخلاف ما لو كانوا على غير
لسانهم، فانهم يحتاجون الى ان يتعلموا تلك اللغة التي يتكلم بها، ثم يفهمون عنه، فاذا
بين لهم الرسول ما امروا به، ونهوا عنه وقامت عليهم حجة الله { فيضل الله
من يشاء } ممن لم ينقد للهدى، ويهدي من يشاء ممن اختصه برحمته.
{ وهو العزيز الحكيم } الذي -من عزته- انه انفرد بالهداية والاضلال، وتقليب القلوب الى
ما شاء، ومن حكمته انه لا يضع هدايته ولا اضلاله الا بالمحل اللائق به.
ويستدل بهذه الاية الكريمة على ان علوم العربية الموصلة الى تبيين كلامه وكلام رسوله امور
مطلوبة محبوبة لله لانه لا يتم معرفة ما انزل على رسوله الا بها الا اذا
كان الناس بحالة لا يحتاجون اليها، وذلك اذا تمرنوا على العربية، ونشا عليها صغيرهم وصارت
طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لان يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما
تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم.
{ 5 – 8 } { ولقد ارسلنا موسى باياتنا ان اخرج قومك من الظلمات
الى النور وذكرهم بايام الله ان في ذلك لايات لكل صبار شكور *واذ قال موسى
لقومه اذكروا نعمة الله عليكم اذ انجاكم من ال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون ابناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم * واذ تاذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم
ولئن كفرتم ان عذابي لشديد * وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا
فان الله لغني حميد }
يخبر تعالى: انه ارسل موسى باياته العظيمة الدالة على صدق ما جاء به وصحته، وامره
بما امر الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بل وبما امر به جميع
الرسل قومهم { ان اخرج قومك من الظلمات الى النور } اي: ظلمات الجهل والكفر
وفروعه، الى نور العلم والايمان وتوابعه.
{ وذكرهم بايام الله } اي: بنعمه عليهم واحسانه اليهم، وبايامه في الامم المكذبين، ووقائعه
بالكافرين، ليشكروا نعمه وليحذروا عقابه، { ان في ذلك } اي: في ايام الله على
العباد { لايات لكل صبار شكور } اي: صبار في الضراء والعسر والضيق، شكور على
السراء والنعمة.
فانه يستدل بايامه على كمال قدرته وعميم احسانه، وتمام عدله وحكمته، ولهذا امتثل موسى عليه
السلام امر ربه، فذكرهم نعم الله فقال: { اذكروا نعمة الله عليكم } اي: بقلوبكم
والسنتكم. { اذ انجاكم من ال فرعون يسومونكم } اي: يولونكم { سوء العذاب }
اي: اشده وفسر ذلك بقوله: { ويذبحون ابناءكم ويستحيون نساءكم } اي: يبقونهن فلا يقتلونهن،
{ وفي ذلكم } الانجاء { بلاء من ربكم عظيم } اي: نعمة عظيمة، او
وفي ذلكم العذاب الذي ابتليتم به من فرعون وملئه ابتلاء من الله عظيم لكم، لينظر
هل تصبرون ام لا؟
وقال لهم حاثا على شكر نعم الله: { واذ تاذن ربكم } اي: اعلم ووعد،
{ لئن شكرتم لازيدنكم } من نعمي { ولئن كفرتم ان عذابي لشديد } ومن
ذلك ان يزيل عنهم النعمة التي انعم بها عليهم.
والشكر: هو اعتراف القلب بنعم الله والثناء على الله بها وصرفها في مرضاة الله تعالى.
وكفر النعمة ضد ذلك.
{ وقال موسى ان تكفروا انتم ومن في الارض جميعا } فلن تضروا الله شيئا،
{ فان الله لغني حميد } فالطاعات لا تزيد في ملكه والمعاصي لا تنقصه، وهو
كامل الغنى حميد في ذاته واسمائه وصفاته وافعاله، ليس له من الصفات الا كل صفة
حمد وكمال، ولا من الاسماء الا كل اسم حسن، ولا من الافعال الا كل فعل
جميل.
{ 9 – 12 } { الم ياتكم نبا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد
وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في افواههم
وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب * قالت
رسلهم افي الله شك فاطر السماوات والارض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى اجل
مسمى قالوا ان انتم الا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا عما كان يعبد اباؤنا فاتونا
بسلطان مبين *قالت لهم رسلهم ان نحن الا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من
يشاء من عباده وما كان لنا ان ناتيكم بسلطان الا باذن الله وعلى الله فليتوكل
المؤمنون * وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما اذيتمونا
وعلى الله فليتوكل المتوكلون }
يقول تعالى مخوفا عباده ما احله بالامم المكذبة حين جاءتهم الرسل، فكذبوهم، فعاقبهم بالعقاب العاجل
الذي راه الناس وسمعوه فقال: { الم ياتكم نبا الذين من قبلكم قوم نوح وعاد
وثمود } وقد ذكر الله قصصهم في كتابه وبسطها، { والذين من بعدهم لا يعلمهم
الا الله } من كثرتهم وكون اخبارهم اندرست.
فهؤلاء كلهم { جاءتهم رسلهم بالبينات } اي: بالادلة الدالة على صدق ما جاءوا به،
فلم يرسل الله رسولا الا اتاه من الايات ما يؤمن على مثله البشر، فحين اتتهم
رسلهم بالبينات لم ينقادوا لها بل استكبروا عنها، { فردوا ايديهم في افواههم } اي:
لم يؤمنوا بما جاءوا به ولم يتفوهوا بشيء مما يدل على الايمان كقوله { يجعلون
اصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت }
{ وقالوا } صريحا لرسلهم: { انا كفرنا بما ارسلتم به وانا لفي شك مما
تدعوننا اليه مريب } اي: موقع في الريبة، وقد كذبوا في ذلك وظلموا.
ولهذا { قالت } لهم { رسلهم افي الله شك } اي: فانه اظهر الاشياء
واجلاها، فمن شك في الله { فاطر السماوات والارض } الذي وجود الاشياء مستند الى
وجوده، لم يكن عنده ثقة بشيء من المعلومات، حتى الامور المحسوسة، ولهذا خاطبتهم الرسل خطاب
من لا يشك فيه ولا يصلح الريب فيه { يدعوكم } الى منافعكم ومصالحكم {
ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم الى اجل مسمى } اي: ليثيبكم على الاستجابة لدعوته بالثواب
العاجل والاجل، فلم يدعكم لينتفع بعبادتكم، بل النفع عائد اليكم.
فردوا على رسلهم رد السفهاء الجاهلين { قالوا } لهم: { ان انتم الا بشر
مثلنا } اي: فكيف تفضلوننا بالنبوة والرسالة، { تريدون ان تصدونا عما كان يعبد اباؤنا
} فكيف نترك راي الاباء وسيرتهم لرايكم؟ وكيف نطيعكم وانتم بشر مثلنا؟
{ فاتونا بسلطان مبين } اي: بحجة وبينة ظاهرة، ومرادهم بينة يقترحونها هم، والا فقد
تقدم ان رسلهم جاءتهم بالبينات.
{ قالت لهم رسلهم } مجيبين عن اقتراحهم واعتراضهم: { ان نحن الا بشر مثلكم
} اي: صحيح وحقيقة انا بشر مثلكم، { ولكن } ليس في ذلك ما يدفع
ما جئنا به من الحق فان { الله يمن على من يشاء من عباده }
فاذا من الله علينا بوحيه ورسالته، فذلك فضله واحسانه، وليس لاحد ان يحجر على الله
فضله ويمنعه من تفضله.
فانظروا ما جئناكم به فان كان حقا فاقبلوه وان كان غير ذلك فردوه ولا تجعلوا
حالنا حجة لكم على رد ما جئناكم به، وقولكم: { فاتونا بسلطان مبين } فان
هذا ليس بايدينا وليس لنا من الامر شيء.
{ وما كان لنا ان ناتيكم بسلطان الا باذن الله } فهو الذي ان شاء
جاءكم به، وان شاء لم ياتكم به وهو لا يفعل الا ما هو مقتضى حكمته
ورحمته، { وعلى الله } لا على غيره { فليتوكل المؤمنون } فيعتمدون عليه في
جلب مصالحهم ودفع مضارهم لعلمهم بتمام كفايته وكمال قدرته وعميم احسانه، ويثقون به في تيسير
ذلك وبحسب ما معهم من الايمان يكون توكلهم.
فعلم بهذا وجوب التوكل، وانه من لوازم الايمان، ومن العبادات الكبار التي يحبها الله ويرضاها،
لتوقف سائر العبادات عليه، { وما لنا الا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا }
اي: اي شيء يمنعنا من التوكل على الله والحال اننا على الحق والهدى، ومن كان
على الحق والهدى فان هداه يوجب له تمام التوكل، وكذلك ما يعلم من ان الله
متكفل بمعونة المهتدي وكفايته، يدعو الى ذلك، بخلاف من لم يكن على الحق والهدى، فانه
ليس ضامنا على الله، فان حاله مناقضة لحال المتوكل.
وفي هذا كالاشارة من الرسل عليهم الصلاة والسلام لقومهم باية عظيمة، وهو ان قومهم -في
الغالب- لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدتهم رسلهم بانهم متوكلون على الله، في دفع كيدكم ومكركم،
وجازمون بكفايته اياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على اتلافهم واطفاء ما معهم من
الحق، فيكون هذا كقول نوح لقومه: { يا قوم ان كان كبر عليكم مقامي وتذكيري
بايات الله فعلى الله توكلت فاجمعوا امركم وشركاءكم، ثم لا يكن امركم عليكم غمة ثم
اقضوا الي ولا تنظرون } الايات.
وقول هود عليه السلام قال: { اني اشهد الله واشهدوا اني بريء مما تشركون من
دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون }
{ ولنصبرن على ما اذيتمونا } اي: ولنستمرن على دعوتكم ووعظكم وتذكيركم ولا نبالي بما
ياتينا منكم من الاذى فانا سنوطن انفسنا على ما ينالنا منكم من الاذى، احتسابا للاجر
ونصحا لكم لعل الله ان يهديكم مع كثرة التذكير.
{ وعلى الله } وحده لا على غيره { فليتوكل المتوكلون } فان التوكل عليه
مفتاح لكل خير.
واعلم ان الرسل عليهم الصلاة والسلام توكلهم في اعلى المطالب واشرف المراتب وهو التوكل على
الله في اقامة دينه ونصره، وهداية عبيده، وازالة الضلال عنهم، وهذا اكمل ما يكون من
التوكل.
{ 13 – 17 } { وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ارضنا او لتعودن
في ملتنا فاوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف
مقامي وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورائه جهنم ويسقى من
ماء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه وياتيه الموت من كل مكان وما هو بميت
ومن ورائه عذاب غليظ }
لما ذكر دعوة الرسل لقومهم ودوامهم على ذلك وعدم مللهم، ذكر منتهى ما وصلت بهم
الحال مع قومهم فقال: { وقال الذين كفروا لرسلهم } متوعدين لهم { لنخرجنكم من
ارضنا او لتعودن في ملتنا } وهذا ابلغ ما يكون من الرد، وليس بعد هذا
فيهم مطمع، لانه ما كفاهم ان اعرضوا عن الهدى بل توعدوهم بالاخراج من ديارهم ونسبوها
الى انفسهم وزعموا ان الرسل لا حق لهم فيها، وهذا من اعظم الظلم، فان الله
اخرج عباده الى الارض، وامرهم بعبادته، وسخر لهم الارض وما عليها يستعينون بها على عبادته.
فمن استعان بذلك على عبادة الله حل له ذلك وخرج من التبعة، ومن استعان بذلك
على الكفر وانواع المعاصي، لم يكن ذلك خالصا له، ولم يحل له، فعلم ان اعداء
الرسل في الحقيقة ليس لهم شيء من الارض التي توعدوا الرسل باخراجهم منها. وان رجعنا
الى مجرد العادة فان الرسل من جملة اهل بلادهم، وافراد منهم، فلاي شيء يمنعونهم حقا
لهم صريحا واضحا؟! هل هذا الا من عدم الدين والمروءة بالكلية؟
ولهذا لما انتهى مكرهم بالرسل الى هذه الحال ما بقي حينئذ الا ان يمضي الله
امره، وينصر اولياءه، { فاوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين } بانواع العقوبات.
{ ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك } اي: العاقبة الحسنة التي جعلها الله للرسل ومن
تبعهم جزاء { لمن خاف مقامي } عليه في الدنيا وراقب الله مراقبة من يعلم
انه يراه، { وخاف وعيد } اي: ما توعدت به من عصاني فاوجب له ذلك
الانكفاف عما يكرهه الله والمبادرة الى ما يحبه الله.
{ واستفتحوا } اي: الكفار اي: هم الذين طلبوا واستعجلوا فتح الله وفرقانه بين اوليائه
واعدائه فجاءهم ما استفتحوا به والا فالله حليم لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، { وخاب
كل جبار عنيد } اي: خسر في الدنيا والاخرة من تجبر على الله وعلى الحق
وعلى عباد الله واستكبر في الارض وعاند الرسل وشاقهم.
{ من ورائه جهنم } اي: جهنم لهذا الجبار العنيد بالمرصاد، فلا بد له من
ورودها فيذاق حينئذ العذاب الشديد، { ويسقى من ماء صديد } في لونه وطعمه ورائحته
الخبيثة، وهو في غاية الحرارة.
{ يتجرعه } من العطش الشديد { ولا يكاد يسيغه } فانه اذا قرب الى
وجهه شواه واذا وصل الى بطنه قطع ما اتى عليه من الامعاء، { وياتيه الموت
من كل مكان وما هو بميت } اي: ياتيه العذاب الشديد من كل نوع من
انواع العذاب، وكل نوع منه من شدته يبلغ الى الموت ولكن الله قضى ان لا
يموتوا كما قال تعالى: { لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك
نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها }
{ ومن ورائه } اي: الجبار العنيد { عذاب غليظ } اي: قوي شديد لا
يعلم وصفه وشدته الا الله تعالى.
{ 18 } { مثل الذين كفروا بربهم اعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد }
يخبر تعالى عن اعمال الكفار التي عملوها: اما ان المراد بها الاعمال التي عملوها لله،
بانها في ذهابها وبطلانها واضمحلالها كاضمحلال الرماد، الذي هو ادق الاشياء واخفها، اذا اشتدت به
الريح في يوم عاصف شديد الهبوب، فانه لا يبقى منه شيئا، ولا يقدر منه على
شيء يذهب ويضمحل، فكذلك اعمال الكفار { لا يقدرون مما كسبوا على شيء } ولا
على مثقال ذرة منه لانه مبني على الكفر والتكذيب.
{ ذلك هو الضلال البعيد } حيث بطل سعيهم واضمحل عملهم، واما ان المراد بذلك
اعمال الكفار التي عملوها ليكيدوا بها الحق، فانهم يسعون ويكدحون في ذلك ومكرهم عائد عليهم
ولن يضروا الله ورسله وجنده وما معهم من الحق شيئا.
{ 19 – 21 } { الم تر ان الله خلق السماوات والارض بالحق ان
يشا يذهبكم ويات بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز * وبرزوا لله جميعا
فقال الضعفاء للذين استكبروا انا كنا لكم تبعا فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله
من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا اجزعنا ام صبرنا ما لنا من
محيص }
ينبه تعالى عباده بانه { خلق السماوات والارض بالحق } اي: ليعبده الخلق ويعرفوه، ويامرهم
وينهاهم وليستدلوا بهما وما فيهما على ما له من صفات الكمال، وليعلموا ان الذي خلق
السماوات والارض -على عظمهما وسعتهما- قادر على ان يعيدهم خلقا جديدا، ليجازيهم باحسانهم واساءتهم، وان
قدرته ومشيئته لا تقصر عن ذلك ولهذا قال: { ان يشا يذهبكم ويات بخلق جديد
}
يحتمل ان المعنى: ان يشا يذهبكم ويات بقوم غيركم يكونون اطوع لله منكم، ويحتمل ان
المراد انه: ان يشا يفنيكم ثم يعيدهم بالبعث خلقا جديدا، ويدل على هذا الاحتمال ما
ذكره بعده من احوال القيامة.
{ وما ذلك على الله بعزيز } اي: بممتنع بل هو سهل عليه جدا، {
ما خلقكم ولا بعثكم الا كنفس واحدة } { وهو الذي يبدا الخلق ثم يعيده
وهو اهون عليه }
{ وبرزوا } اي: الخلائق { لله جميعا } حين ينفخ في الصور فيخرجون من
الاجداث الى ربهم فيقفون في ارض مستوية قاع صفصف، لا ترى فيها عوجا ولا امتا،
ويبرزون له لا يخفى [عليه] منهم خافية، فاذا برزوا صاروا يتحاجون، وكل يدفع عن نفسه،
ويدافع ما يقدر عليه، ولكن اني لهم ذلك؟
فيقول { الضعفاء } اي: التابعون والمقلدون { للذين استكبروا } وهم: المتبوعون الذين هم
قادة في الضلال: { انا كنا لكم تبعا } اي: في الدنيا، امرتمونا بالضلال، وزينتموه
لنا فاغويتمونا، { فهل انتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء } اي: ولو
مثقال ذرة، { قالوا } اي: المتبوعون والرؤساء { اغويناكم كما غوينا } و {
لو هدانا الله لهديناكم } فلا يغني احد احدا، { سواء علينا اجزعنا } من
العذاب { ام صبرنا } عليه، { ما لنا من محيص } اي: من ملجا
نلجا اليه، ولا مهرب لنا من عذاب الله.
{ 22 – 23 } { وقال الشيطان لما قضي الامر ان الله وعدكم وعد
الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الا ان دعوتكم فاستجبتم لي فلا
تلوموني ولوموا انفسكم ما انا بمصرخكم وما انتم بمصرخي اني كفرت بما اشركتمون من قبل
ان الظالمين لهم عذاب اليم * وادخل الذين امنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها
الانهار خالدين فيها باذن ربهم تحيتهم فيها سلام }
اي: { وقال الشيطان } الذي هو سبب لكل شر يقع ووقع في العالم، مخاطبا
لاهل النار ومتبرئا منهم { لما قضي الامر } ودخل اهل الجنة الجنة واهل النار
النار. { ان الله وعدكم وعد الحق } على السنة رسله فلم تطيعوه، فلو اطعتموه
لادركتم الفوز العظيم، { ووعدتكم } الخير { فاخلفتكم } اي: لم يحصل ولن يحصل
لكم ما منيتكم به من الاماني الباطلة.
{ وما كان لي عليكم من سلطان } اي: من حجة على تاييد قولي، {
الا ان دعوتكم فاستجبتم لي } اي: هذا نهاية ما عندي اني دعوتكم الى مرادي
وزينته لكم، فاستجبتم لي اتباعا لاهوائكم وشهواتكم، فاذا كانت الحال بهذه الصورة { فلا تلوموني
ولوموا انفسكم } فانتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب، { ما انا بمصرخكم }
اي: بمغيثكم من الشدة التي انتم بها { وما انتم بمصرخي } كل له قسط
من العذاب.
{ اني كفرت بما اشركتمون من قبل } اي: تبرات من جعلكم لي شريكا مع
الله فلست شريكا لله ولا تجب طاعتي، { ان الظالمين } لانفسهم بطاعة الشيطان {
لهم عذاب اليم } خالدين فيه ابدا.
وهذا من لطف الله بعباده ،ان حذرهم من طاعة الشيطان واخبر بمداخله التي يدخل منها
على الانسان ومقاصده فيه، وانه يقصد ان يدخله النيران، وهنا بين لنا انه اذا دخل
النار وحزبه انه يتبرا منهم هذه البراءة، ويكفر بشركهم { ولا ينبئك مثل خبير }
واعلم ان الله ذكر في هذه الاية انه ليس له سلطان، وقال في اية اخرى
{ انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون } فالسلطان الذي نفاه عنه
هو سلطان الحجة والدليل، فليس له حجة اصلا على ما يدعو اليه، وانما نهاية ذلك
ان يقيم لهم من الشبه والتزيينات ما به يتجرؤون على المعاصي.
واما السلطان الذي اثبته فهو التسلط بالاغراء على المعاصي لاوليائه يؤزهم الى المعاصي ازا، وهم
الذين سلطوه على انفسهم بموالاته والالتحاق بحزبه، ولهذا ليس له سلطان على الذين امنوا وعلى
ربهم يتوكلون.
ولما ذكر عقاب الظالمين ذكر ثواب الطائعين فقال: { وادخل الذين امنوا وعملوا الصالحات }
اي: قاموا بالدين، قولا، وعملا، واعتقادا { جنات تجري من تحتها الانهار } فيها من
اللذات والشهوات ما لا عين رات، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، {
خالدين فيها باذن ربهم } اي: لا بحولهم وقوتهم بل بحول الله وقوته { تحيتهم
فيها سلام } اي: يحيي بعضهم بعضا بالسلام والتحية والكلام الطيب.
{ 24 – 26 } { الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة
طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء *تؤتي اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال
للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها
من قرار }
يقول تعالى: { الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة } ” وهي شهادة
ان لا اله الا الله، وفروعها { كشجرة طيبة } وهي النخلة { اصلها ثابت
} في الارض { وفرعها } منتشر { في السماء } وهي كثيرة النفع دائما،
{ تؤتي اكلها } اي: ثمرتها { كل حين باذن ربها } فكذلك شجرة الايمان
، اصلها ثابت في قلب المؤمن، علما واعتقادا. وفرعها من الكلم الطيب والعمل الصالح والاخلاق
المرضية، والاداب الحسنة في السماء دائما يصعد الى الله منه من الاعمال والاقوال التي تخرجها
شجرة الايمان ما ينتفع به المؤمن وينفع غيره، { ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون
} ما امرهم به ونهاهم عنه، فان في ضرب الامثال تقريبا للمعاني المعقولة من الامثال
المحسوسة، ويتبين المعنى الذي اراده الله غاية البيان، ويتضح غاية الوضوح، وهذا من رحمته وحسن
تعليمه. فلله اتم الحمد واكمله واعمه، فهذه صفة كلمة التوحيد وثباتها، في قلب المؤمن.
ثم ذكر ضدها وهي كلمة الكفر وفروعها فقال: { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة }
الماكل والمطعم وهي: شجرة الحنظل ونحوها، { اجتثت } هذه الشجرة { من فوق الارض
ما لها من قرار } اي: من ثبوت فلا عروق تمسكها، ولا ثمرة صالحة، تنتجها،
بل ان وجد فيها ثمرة، فهي ثمرة خبيثة، كذلك كلمة الكفر والمعاصي، ليس لها ثبوت
نافع في القلب، ولا تثمر الا كل قول خبيث وعمل خبيث يستضر به صاحبه، ولا
ينتفع، فلا يصعد الى الله منه عمل صالح ولا ينفع نفسه، ولا ينتفع به غيره.