ستتواتر القطرات هنا بما يشبع في النفس شوقها الى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم،
وبما يتفق مع ما صح من اوصافه صلى الله عليه وسلم، فلتتهيا الاذهان والافهام لتتلقى
هذه القطرات العذبة، التي ستحلو بها النفس، ويصفو بها القلب بوقعها عند متلقيها.
وهاك القطرات التي ضاق المقام عن ان نغترف اكثر منها، فقد وضعنا ايدينا في بحر
وصفه صلى الله عليه وسلم، فخرجت باربع قطرات عذاب، اجمل فيها وصفه اجمالا بما اقتضته
ضرورات الفصاحة والبلاغة.
القطرة الاولى: وصف ام معبد:
هذا الوصف فاض ذكره بين العلماء، وانتشر خبره بينهم، وهو مروي في كتبهم، فقد رواه
زمرة من الحفاظ، من رواية حزام بن هشام بن حبيش بن خالد عن ابيه، عن
جده صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واخرجه القتيبي عن سليمان بن الحكم، باسناده
عن هشام بن حبيش. وروي من طرق اخرى كثيرة، وقد اخرج – ايضا – عن
ابي معبد نفسه، وعنه عن ام معبد، واخرج عن اسماء بنت ابي بكر وابي سليط
الانصاري رضي الله عنهم.
وام معبد هذه صحابية جليلة، اسمها عاتكة بنت خالد بن خليد الخزاعية، وكنيت بابنها معبد،
اما زوجها ابو معبد فقيل: ان اسمه اكثم بن الجون. وقد ترجم ابن عبد البر
وابن حجر لابي معبد، بيد انهما لم يسمياه، وقد ترجما لاكثم بن الجون، ولم يذكرا
انه ابو معبد. انظر: الاصابة 1/ 61، 7/ 177، وانظر ايضا: الاستيعاب ص141.
وهذا الوصف الذي ذكرته ام معبد وصف جامع شامل، حوى من صفات الجمال ما يليق
بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وينسب اليه من جمال الرجولة العربية ما هو حقيق به،
وسط من تفاخروا بصفاتهم ومحاسنهم، وهم لم يبلغوا – ولن يبلغوا – الدرجة التي استوى
عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم لديهم صورة مثالية للجمال العربي مجمع عليها فيما
بينهم، كل عنصر فيها يمثل غاية الجمال الذي تعارفوا عليه. فكانوا يحمدون الرجال والنساء بهذه
الصفات الجمالية، ويدور عليها مدحهم وذمهم، وما كان لله تعالى ان يبعث رسوله صلى الله
عليه وسلم بين قوم يتمادحون بتلك الصفات، ولا يكون له النصيب الاكبر منها.
ولقد اصابت ام معبد واجادت؛ اصابت من جهة فصاحتها، كغيرها من لداتها اللاتي جمعن ادوات
البيان والتبيان، واجادت من جهة لمسها الصفات الخلقية للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم من
اول وهلة راته فيها، فكانها امسكت بين يديها الة تصوير والتقطت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم لقطة حية، ووصفته لزوجها من خلالها.
واني لاعجب لتلك المراة التي لم يلبث الرسول صلى الله عليه وسلم عندها الا يسيرا،
كيف استطاعت في هذا الوقت اليسير ان تلم بعناصر الصورة الشريفة ومكوناتها، فتخرج وصفا دقيقا،
ينطبق على الموصوف انطباق الصورة الضوئية على صاحبها؟! ولعل هذه الدقة تعزى الى جودة الالة
التي استعملتها ام معبد، وهي الة كان العرب لا يبارون فيها؛ وهي الفصاحة والبلاغة في
فن الوصف، حتى ان بعضهم – ومنهم ام معبد، وهند بن ابي هالة، وغيرهما ممن
وصف النبي صلى الله عليه وسلم – كانوا معروفين بكمال وصفهم ودقة نعتهم.
وامر اخر يمكن ان يعزى اليه اجادة ام معبد وصف النبي صلى الله عليه وسلم،
وهو انه صلى الله عليه وسلم عندما كان يقف اصحابه بين يديه او يتحدثون اليه،
لا يلبث النور المحمدي يفيض، فيعم الارجاء ويمحو من نفوسهم الظلام الدامس، فتنطبع في قلوبهم
صورته الشريفة، لا تفارق عيونهم، ولا تبرح خيالهم، فيتمثلونها في كل وقت وحين، عندما يغيب
صلى الله عليه وسلم عنهم، او يغيبون عنه.
كما ان شعاع صورته البهية اذا طالعته عين من يجلس اليه لاول مرة، تجده تنزل
في مخيلة جليسه منزلة سامية، تلح على عقله وقلبه عندما تتفارق الابدان، فيستحضر صورته ويتمثل
هيئته، وكانه راه منذ زمن طويل.
فهاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوصفه يقع في النفس موقع قطرات الماء الفرات
عندما يصادف النفوس الظماى، ستجد الصفات كلها صفات من بلغ منزلة سامقة في الجمال والجلال،
لا تضارعها منزلة، ولا يسمو اليها احد من البشر، وهي كلها تدور في فلك بشري
لا تدور معها صفات احد من البشر؛ لانها بلغت درجة الكمال البشري.
يروى ان النبي صلى الله عليه وسلم وابا بكر رضي الله عنه ومولاه عامر بن
فهيرة، ودليلهما الليثي عبد الله بن اريقط خرجوا من مكة، ومروا على خيمة امراة عجوز
تسمى ام معبد، وكانت برزة جلدة، جلدة: صلبة. تحتبي الاحتباء: هو ان يضم الانسان رجليه
الى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ويشده عليها، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب.
بفناء القبة، القبة: الخيمة الصغيرة اعلاها مستدير، او البناء المستدير المقوس المجوف. ثم تسقي وتطعم،
فسالوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا، وكان القوم مرملين مرملين: نفد زادهم.
مسنتين مسنتين: داخلين في السنة؛ وهي الجدب والمجاعة. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم
الى شاة في كسر الخيمة، فقال: “ما هذه الشاة يا ام معبد؟”. قالت: شاة خلفها
الجهد عن الغنم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هل بها من لبن؟”. قالت:
هي اجهد من ذلك. قال: “اتاذنين ان احلبها؟”. قالت: بابي انت وامي، ان رايت بها
حلبا فاحلبها. فدعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح بيده ضرعها، الضرع في
البهائم وذوات الخف كالثدي في المراة. وسمى الله – جل ثناؤه – ثم دعا لام
معبد في شاتها، فتفاجت عليه تفاجت: وسعت ما بين رجليها، وباعدت احداهما عن الاخرى، وهذا
هو سلوك الشاة عند الحلب. ودرت درت: صبت اللبن. واجترت اجترت: اخرجت الجرة من جوفها
الى فمها لتمضغها، وهذا الفعل يقع من الابل والغنم الممتلئتين علفا. فهذه الشاة صارت تجتر
مع ما هي فيه من ضعف وجهد. فدعا باناء يربض الرهط، يربض الرهط: يرويهم شربه
حتى يقعوا على الارض من ثقلهم، فيربضوا كما تربض الغنم على الارض اذا شبعت ونامت.
والرهط: لا واحد له من لفظه، وهو من الثلاثة الى العشرة. ويروى: باناء يريض الرهط.
يريض: يرويهم بعض الري. والروض نحو نصف قربة. واراض الحوض: اذا صب فيه من الماء
ما يواري ارضه. وقيل: هو ماخوذ من الروضة، وهو الموضع الذي يستنقع فيه الماء، ومنه
قوله في هذا الحديث: فشربوا حتى اراضوا عللا بعد نهل. اي: ارتووا من الشرب مرة
بعد مرة، فالنهل هو الشرب الاول، والعلل هو الشرب الثاني. فحلب فيه ثجا، اي: كان
لبن الشاة يسيل من ضرعها كالتي امتلات لبنا وسمنا. حتى علاه البهاء، اي: بريق رغوة
اللبن بعد امتلاء الاناء. واصل البهاء الحسن والنضارة. ويروى: حتى علاه الثمال. والثمال: جمع ثمالة،
وهي رغوة الحليب. ثم سقاها حتى رويت، وسقى اصحابه حتى رووا، ثم شرب اخرهم، ثم
اراضوا عللا بعد نهل، اي: ارتووا من الشرب مرة بعد مرة. فالنهل الشرب الاول، والعلل
الثاني. ثم حلب فيه ثانيا بعد بدء، بعد اي: بعد الحلبة الاولى. حتى ملا الاناء
ثم غادره اي: تركه. عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها. فقلما لبثت حتى جاء زوجها ابو
معبد، يسوق اعنزا عجافا، تشاركن هزلا تشاركن هزلا: شملهن الهزال، فكانهن اشتركن فيه. ويروى: تساوكن
هزلا. اي: يمشين مشيا ضعيفا. والتساوك هو التمايل من الضعف والهزال. وروي ايضا: يتتاركن هزلا.
اي: يترك بعضهن بعضا، ومن شدة ما هي فيه من الضعف تتخلف بعضهن عن بعض.
وفي رواية اخرى: تساوقن هزلا. اي: يسوق بعضها بعضا، ويتاخر عنه. ضحا مخهن قليل، قال
ابو موسى الحافظ الاصفهاني: هذه اللفظة كانت تنبو عن قلبي، فان وقوعها بين صفات الغنم
بعيد، وكان يغلب على ظني انه تصحيف، ومن الرواة من اسقطها من الحديث، حتى وجدت
الحافظ ابا احمد العسال رواه في معجمه باسناده، فقال: يتتاركن هزلا مخاخهن قليل. ولا اظن
الصحيح الا كما رواه. والمخاخ جمع المخ، كالحباب في الحب، فيكون قد صحفت “مخا” بضحا،
ويدل عليه انه مكتوب في اكثر النسخ بالالف. ومما يبطل ضحا انهم كانوا عندها في
القائلة، يقول الهاتف: رفيقين قالا خيمتي ام معبد. وزوجها انما جاء بعد مسيرهم، فكيف يكون
مجيئه ضحا؟! فلما ان راى ابو معبد اللبن عجب، وقال: من اين لك هذا اللبن
يا ام معبد، والشاة عازب اي: بعيد. حيال حيال: جمع حائل، وهي الشاة التي لم
تحمل، فلا يكون بها لبن. وروي حيل. حيل: جمع حائل ايضا. ولا حلوب؟! الحلوب: الشاة
التي تحلب. وروي: ولا حلوبة في البيت. فقالت: لا والله، الا انه مر بنا رجل
مبارك، من حاله كذا وكذا، فقال ابو معبد: صفيه لي يا ام معبد. فقالت: رايت
رجلا ظاهر الوضاءة، اي: الحسن والجمال. متبلج الوجه، الابلج الوجه والمتبلج: الحسن المشرق المضيء. ولم
ترد به بلج الحواجب اي: البياض بين الحاجبين؛ لانها وصفته بانه اقرن. حسن الخلق، لم
تعبه ثجلة، الثجلة: عظم البطن مع استرخاء اسفله. وفي رواية بالنون والحاء المهملة (نحلة)، النحول:
الدقة وضعف التركيب. بيد انهم لم يستعملوا النحلة بمعنى النحول. وفي رواية اخرى: (لم تعله)
بدلا من (لم تعبه). اي: لم تغلب عليه حتى عرف بها. ولم تزر الازراء: التهاون
بالشيء والاحتقار له. به صقلة، الصقلة: طول الصقل، وهو الخصر ومنقطع الاضلاع من الخاصرة. وقيل:
ضمره وقلة لحمه، من قولهم: صقلت الناقة اذا اضمرتها بالسير. ويروى سقلة بالسين المهملة، وهما
بنفس المعنى، على ابدال الصاد سينا؛ لاجل القاف. وفي رواية اخرى: صعلة، الصعلة: صغر الراس.
وقد تكون الصعلة الدقة في البدن والنحول. والمعنى انه ليس بعظيم البطن، ولا منتفخ الخصر،
ولا ضامره جدا، ولا صغير الراس، فلا عيب في صفة من صفاته، ولا ينسب اليه
عيب صلى الله عليه وسلم. وسيما قسيما، الوسيم القسيم: الحسن القسمة وهو الوجه. وقيل: هو
من القسام، اي: الجمال. ورجل مقسم الوجه وقسيم الوجه، كان كل موضع فيه قد اخذ
من الحسن والجمال قسما، فهو كله جميل، لم يكن فيه ما يستقبح. في عينيه دعج،
الدعج: شدة سواد حدقة العين مع اتساعها. وفي اشفاره الاشفار: حروف الاجفان التي ينبت عليها
شعر الحاجبين. غطف، الغطف: يروى بالغين ويريد به الطول، واصله من الغطف وهو: سعة العيش.
ويروى بالعين المهملة (عطف): وهو انعطاف شعر الاجفان لطولها. ويروى بالواو: (وطف): وهو كثرة شعر
العين واسترخائه، فاشتركت الروايات الثلاث في طول شعر الاجفان. والمشهور من هذه الروايات، رواية الغين
المعجمة، وارادت بالاشفار شعر الاشفار. وفي صوته صحل، الصحل: صوت فيه بحة وغلظ، لا يبلغ
ان يكون جشة، وهو يستحسن؛ لخلوه من الحدة المؤذية للسمع. ويروى: صهل بالهاء، من الصهيل،
وهو صوت الفرس، وعندما يصهل بشدة وقوة. وفي عنقه سطع، السطع: طول العنق، واصله من
سطوع النار، بمعنى ارتفاع لهيبها. وفي لحيته كثافة، الكثافة في الشعر: اجتماعه والتفافه وكثرته. ويروى:
كثاثة. الكثافة والكثاثة بمعنى واحد. ازج اقرن، الازج: المتقوس الحاجبين في طول وامتداد. والاقرن: المتصل
راسي حاجبيه. ان صمت فعليه الوقار، الوقار: الرزانة والحلم والهيبة. وان تكلم سما وعلاه البهاء،
اجمل الناس وابهاه من بعيد، واحسنه واحلاه من قريب، حلو المنطق، فصل، الفصل: البين الظاهر،
الذي يفصل بين الحق والباطل. لا نزر ولا هذر، كان منطقه خرزات الخرز: حبات تنظم
في عقد تضعه المراة في رقبتها لتتزين به. نظم يتحدرن، ربعة، الربعة من الرجال: ما
بين الطويل والقصير. وكان ميله الى جانب الطول اكثر من ميله الى جانب القصر، فلم
يكن في حد الربعة غير متجاوز له، فجعل ذلك القدر من تجاوز حد الربعة عدم
الياس من بعض الطول. ويروى: لا يائس من طول بمعنى ايس، وهو فاعل بمعنى مفعول؛
اي: ميؤوس منه؛ لافراط طوله. ويروى: لا بائن من طول. اي: لا يجاوز الناس طولا.
وفي رواية: لا تشنؤه من طول. اي: لا يبغض لفرط طوله، ومنه جاءت رواية من
روى: لا يتشنى من طول. لا ياس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، اي:
لا تحتقره العيون لقصره فتتركه وتجاوزه الى غيره، بل تقبله وتقف عنده. غصن بين غصنين،
فهو انضر الثلاثة منظرا، انضر الثلاثة منظرا اي: احسنهم وابهاهم، من النضارة؛ اي: الحسن والنعمة.
والثلاثة: هم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابو بكر رضي الله عنه، وعامر بن
فهيرة. واحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، حف به: استدار حوله واحدق به. ان قال
انصتوا لقوله، وان امر تبادروا لامره، محفود محشود، المحفود: المخدوم. والمحشود: الذي يجتمع الناس حوله.
اي: كان اصحابه يحيطون به، ويجتمعون على خدمته. ويروى بالسين المهملة. من الحسد. فان صح،
فمن اولى ان يحسد ممن تكاملت فيه مثل هذه الاخلاق! لا عابس ولا مفند. العابس:
الكالح الوجه المقطب. والمفند: المنسوب الى الجهل وقلة العقل، من الفند اي: الخرف. قال ابو
معبد: هو – والله – صاحب قريش الذي ذكر لنا من امره ما ذكر بمكة،
ولقد هممت ان اصحبه، ولافعلن ان وجدت الى ذلك سبيلا.
قال: فاصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت، ولا يدرون من صاحبه، وهو يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه رفيقين قالا قالا: من القيلولة، وهو النزول في القائلة
عند شدة الحر؛ للاستراحة والنوم وغير ذلك. خيمتي ام معبد:
هما نزلاها بالهدى واهتدت به
فقد فاز من امسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
به من فعال لا يجازى وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا اختكم عن شاتها وانائها
فانكمو ان تسالوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
له بصريح ضرة الشاة مزبد
فغادرها رهنا لديها لحالب
يرددها في مصدر ثم مورد
وزاد في رواية:
فما حملت من ناقة فوق رحلها
ابر واوفى ذمة من محمد
واكسى لبرد الخال قبل ابتذاله
واعطى براس السابح المتجرد
- الثوب يا ام معبد
- النحو والبلاغة في وصف ام معبد
- بلأغه أم معبد
- شكل الرسول كما وصفتة ام معبد
- وصف ام معبد للرسول ام بي ثري