مقال رائع للشيخ علي الطنطاوي عام 1956
نظرت البارحة فاذا الغرفة دافئة والنار موقدة، وانا على اريكة مريحة، افكر في موضوع اكتب
فيه، والمصباح الى جانبي، والهاتف قريب مني، والاولاد يكتبون، وامهم تعالج صوفا تحيكه، وقد اكلنا
وشربنا، والراديو يهمس بصوت خافت، وكل شيء هادىء، وليس ما اشكو منه او اطلب زيادة
عليه.
فقلت: “الحمد لله”، اخرجتها من قرارة قلبي، ثم فكرت فرايت ان “الحمد” ليس كلمة تقال
باللسان ولو رددها اللسان الف مرة، ولكن الحمد على النعم ان تفيض منها على المحتاج
اليها، حمد الغني ان يعطي الفقراء، وحمد القوي ان يساعد الضعفاء، وحمد الصحيح ان يعاون
المرضى، وحمد الحاكم ان يعدل في المحكومين، فهل اكون حامدا لله على هذه النعم اذا
كنت انا واولادي في شبع ودفء وجاري واولاده في الجوع والبرد؟، واذا كان جاري لم
يسالني افلا يجب علي انا ان اسال عنه؟
وسالتني زوجتي: فيم تفكر؟، فقلت لها .
قالت: صحيح، ولكن لا يكفي العباد الا من خلقهم، ولو اردت ان تكفي جيرانك من
الفقراء لافقرت نفسك قبل ان تغنيهم.
قلت: لو كنت غنيا لما استطعت ان اغنيهم، فكيف وانا رجل مستور، يرزقني الله رزق
الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا؟
لا، لا اريد ان اغني الفقراء، بل اريد ان اقول ان المسائل نسبية، وانا بالنسبة
الى ارباب الالاف المؤلفة فقير، ولكني بالنسبة الى العامل الذي يعيل عشرة وما له الا
اجرته غني من الاغنياء، وهذا العامل غني بالنسبة الى الارملة المفردة التي لا مورد لها
ولا مال في يدها، ورب الالاف فقير بالنسبة لصاحب الملايين؛ فليس في الدنيا فقير ولا
غني فقرا مطلقا وغنى مطلقا، وليس فيها صغير ولا كبير، ومن شك فاني اساله اصعب
سؤال يمكن ان يوجه الى انسان، اساله عن العصفور: هل هو صغير ام كبير؟، فان
قال صغير، قلت: اقصد نسبته الى الفيل، وان قال كبير، قلت: اقصد نسبته الى النملة..
فالعصفور كبير جدا مع النملة، وصغير جدا مع الفيل، وانا غني جدا مع الارملة المفردة
الفقيرة التي فقدت المال والعائل، وان كنت فقيرا جدا مع فلان وفلان من ملوك المال..
تقولون: ان الطنطاوي يتفلسف اليوم.. لا؛ ما اتفلسف، ولكن احب ان اقول لكم ان كل
واحد منكم وواحدة يستطيع ان يجد من هو افقر منه فيعطيه، اذا لم يكن عندك
– يا سيدتي – الا خمسة ارغفة وصحن “مجدرة” (وهو طعام من البرغل اي القمح
المجروش مع العدس)، تستطيعين ان تعطي رغيفا لمن ليس له شيء، والذي بقي عنده بعد
عشائه ثلاثة صحون من الفاصوليا والرز وشيء من الفاكهة والحلو يستطيع ان يعطي منها قليلا
لصاحبة الارغفة والمجدرة..
والذي ليس عنده الا اربعة ثياب مرقعة يعطي ثوبا لمن ليس له شيء، والذي عنده
بذلة لم تخرق ولم ترقع ولكنه مل منها، وعنده ثلاث جدد من دونها، يستطيع ان
يعطيها لصاحب الثياب المرقعة، ورب ثوب هو في نظرك عتيق وقديم بال، لو اعطيته لغيرك
لراه ثوب العيد ولاتخذه لباس الزينة، وهو يفرح به مثل فرحك انت. لو ان صاحب
الملايين مل سيارته الشفروليه طراز سنة 1953 – بعدما اشترى كاديلاك طراز 1956 – فاعطاك
تلك السيارة .
ومهما كان المرء فقيرا فانه يستطيع ان يعطي شيئا لمن هو افقر منه، ان اصغر
موظف لا يتجاوز راتبه مئة وخمسين قرش، لا يشعر بالحاجة ولا يمسه الفقر اذا تصدق
بقرش واحد على من ليس له شيء، وصاحب الراتب الذي يصل الى اربعة جنيهات لا
يضره ان يدفع منها خمس قروش ويقول: “هذه لله”، والذي يربح عشرة الاف من التجار
في الشهر يستطيع ان يتصدق بمئتين منها في كل شهر.
ولا تظنوا ان ما تعطونه يذهب بالمجان، لا والله، انكم تقبضون الثمن اضعافا؛ تقبضونه في
الدنيا قبل الاخرة، ولقد جربت ذلك بنفسي، انا اعمل واكسب وانفق على اهلي منذ اكثر
من ثلاثين سنة، وليس لي من ابواب الخير والعبادة الا اني ابذل في سبيل الله
ان كان في يدي مال، ولم ادخر في عمري شيئا، وكانت زوجتي تقول لي دائما:
يا رجل، وفر واتخذ لبناتك دارا على الاقل، فاقول: خليها على الله، اتدرون ماذا كان؟!!
لقد حسب الله لي ما انفقته في سبيله وادخره لي في بنك الحسنات الذي يعطي
ارباحا سنوية قدرها سبعون الفا في المئة، نعم {كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل
سنبلة مائة حبة}[البقرة: من الاية 261] ، وهناك زيادات تبلغ ضعف الربح {والله يضاعف لمن
يشاء} [البقرة: من الاية 261]، فارسل الله صديقا لي سيدا كريما من اعيان دمشق فاقرضني
ثمن الدار، وارسل اصدقاء اخرين من المتفضلين فبنوا الدار حتى كملت وانا – والله –
لا اعرف من امرها الا ما يعرفه المارة عليها من الطريق، ثم اعان الله برزق
حلال لم اكن محتسبا فوفيت ديونها جميعا، ومن شاء ذكرت له التفاصيل وسميت له الاسماء.
وما وقعت والله في ضيق قط الا فرجه الله عني، ولا احتجت لشيء الا جاءني،
وكلما زاد عندي شيء واحببت ان احفظه وضعته في هذا البنك.
فهل في الدنيا عاقل يعامل بنك المخلوق الذي يعطي 5%ربحا حراما وربما افلس او احترق،
ويترك بنك الخالق الذي يعطي في كل مئة ربح قدره سبعون الفا؟، وهو مؤمن عليه
عند رب العالمين فلا يفلس ولا يحترق ولا ياكل اموال الناس.
فلا تحسبوا ان الذي تعطونه يذهب هدرا، ان الله يخلفه في الدنيا قبل الاخرة، وانا
لا احب ان اسوق لكم الامثلة فان كل واحد منكم يحفظ مما راى او سمع
كثيرا منها، انما اسوق لكم مثلا واحدا: قصة الشيخ سليم المسوتي رحمه الله، وقد كان
شيخ ابي، وكان – على فقره – لا يرد سائلا قط، ولطالما لبس الجبة او
“الفروة” فلقي بردان يرتجف فنزعها فدفعها اليه وعاد الى البيت بالازار، وطالما اخذ السفرة من
امام عياله فاعطاها للسائل، وكان يوما في رمضان وقد وضعت المائدة انتظارا للمدفع، فجاء سائل
يقسم انه وعياله بلا طعام، فابتغى الشيخ غفلة من امراته وفتح له فاعطاه الطعام كله!،
فلما رات ذلك امراته ولولت عليه وصاحت واقسمت انها لا تقعد عنده، وهو ساكت..
فلم تمر نصف ساعة حتى قرع الباب وجاء من يحمل الاطباق فيها الوان الطعام والحلوى
والفاكهة، فسالوا: ما الخبر؟، واذا الخبر ان سعيد باشا شموين كان قد دعا بعض الكبار
فاعتذروا، فغضب وحلف الا ياكل احد من الطعام وامر بحمله كله الى دار الشيخ سليم
المسوتي، قال: ارايت يا امراة؟
وقصة المراة التي كان ولدها مسافرا، وكانت قد قعدت يوما تاكل وليس امامها الا لقمة
ادام وقطعة خبز، فجاء سائل فمنعت عن فمها واعطته وباتت جائعة، فلما جاء الولد من
سفره جعل يحدثها بما راى، قال: ومن اعجب ما مر بي انه لحقني اسد في
الطريق، وكنت وحدي فهربت منه، فوثب علي وما شعرت الا وقد صرت في فمه، واذا
برجل عليه ثياب بيض يظهر امامي فيخلصني منه ويقول: ” لقمة بلقمة “، ولم افهم
مراده.
فسالته عن وقت هذا الحادث واذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير، نزعت
اللقمة من فمها لتتصدق بها فنزع الله ولدها من فم الاسد.
والصدقة تدفع البلاء ويشفي الله بها المريض، ويمنع الله بها الاذى وهذه اشياء مجربة، وقد
وردت فيها الاثار، والذي يؤمن بان لهذا الكون الها هو يتصرف فيه وبيده العطاء والمنع،
وهو الذي يشفي وهو يسلم، يعلم ان هذا صحيح، والملحد ما لنا معه كلام.
والنساء اقرب الى الايمان والى العطف، وارجو الا يذهب هذا الكلام صرخة في واد مقفر،
وان يكون له اثره، وانت تنظر كل واحدة من السامعات الفاضلات ما الذي تستطيع ان
تستغني عنه من ثيابها القديمة او ثياب اولادها، ومما ترميه ولا تحتاج اليه من فرش
بيتها، ومما يفيض عنها من الطعام والشراب، فتفتش عن اسرة فقيرة يكون هذا لها فرحة
الشهر.
ولا تعطي عطاء الكبر والترفع، فان الابتسامة في وجه الفقير (مع القرش تعطيه له) خير
من جنيه تدفعه له وانت شامخ الانف متكبر مترفع، ولقد رايت بنتي الصغيرة بنان –
من سنين – تحمل صحنين لتعطيهما الحارس في رمضان قلت: تعالي يا بنت، هاتي صينية
وملعقة وشوكة وكاس ماء نظيف وقدميها اليه هكذا، انك لم تخسري شيئا، الطعام هو الطعام،
ولكن اذا قدمت له الصحن والرغيف كسرت نفسه واشعرته انه كالسائل (الشحاذ)، اما اذا قدمته
في الصينية مع الكاس والملعقة والشوكة والمملحة ينجبر خاطره ويحس كانه ضيف عزيز.
ومن ابواب الصدقة ما لا ينتبه له اكثر الناس مع انه هين، من ذلك التساهل
مع البياع الذي يدور على الابواب يبيع الخضر او الفاكهة او البصل، فتاتي المراة تناقشه
وتساومه على القرش وتظهر “شطارتها” كلها، مع انها قد تكون من عائلة تملك مئة الف
وهذا المسكين لا تساوي بضاعته التي يدور النهار لييعها، لا تساوي كلها عشرة قروش ولا
يربح منها الا قرشين!
ومن ابواب الصدقة ان تفكر معلمة المدرسة حينما تكلف البنات شراء ملابس الرياضة مثلا، او
تصر على شراء الدفاتر الغالية والكماليات التي لا ضرورة لها من ادوات المدرسة، ان تفكر
ان من التلميذات من لا يحصل ابوها اكثر من ثمن الخبز واجرة البيت، وان شراء
ملابس الرياضة او الدفاتر العريضة او “الاطلس” او علبة الالوان نراه نحن هينا ولكنه عنده
كبير، والمسائل – كما قلت – نسبية، ولو كلفت المعلمة دفع الف جنيه لنادت بالويل
والثبور، مع ان التاجر الكبير يقول: وما الف جنيه؟! سهلة! سهلة عليه وصعبة عليها، كذلك
الخمس قروش او العشر سهلة على المعلمة ولكنها صعبة على كثير من الاباء .
والخلاصة يا سادة: ان من احب ان يسخر الله له من هو اقوى منه واغنى
فليعن من هو اضعف منه وافقر، وليضع كل منا نفسه في موضع الاخر، وليحب لاخيه
ما يحب لنفسه، ان النعم انما تحفظ وتدوم وتزداد بالشكر، وان الشكر لا يكون باللسان
وحده، ولو قال الف مرة ((الحمد لله)) وهو يضن بماله ان كان غنيا، ويبخل بجاهه
ان كان وجيها، ويظلم بسلطانه ان كان ذا سلطان لا يكون حامدا لله، وانما يكون
مرائيا او كذابا.
فاحمدوا الله على نعمه حمدا فعليا، واحسنوا كما تحبون ان يحسن الله اليكم، واعلموا ان
ما ادعوكم اليه اليوم هو من اسباب النصر على العدو ومن جملة الاستعداد له؛ فهو
جهاد بالمال، والجهاد بالمال اخو الجهاد بالنفس.
ورحم الله من سمع المواعظ فعمل بها ولم يجعلها تدخل من اذن لتخرج من الاخرى..
كتب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله مقالة نشرت سنة 1956 في مجلة الاذاعة.