قصة صحابي ..ابو الدحداح رضي الله عنه
ان اكرم ما في المؤمن امران: اولهما المعدن النقي الصافي، القائم على الفطرة الطاهرة، والاستعداد
الطيب ، ولذلك يقول الحق جل جلاله : ” فاقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله
التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن اكثر الناس لا
يعلمون “.
ويقول سيد الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم – : ” الناس معادن، خيارهم
في الجاهلية خيارهم في الاسلام، اذا فقهوا “.
وثاني الامرين هو المبادرة الى الخير، والمسارعة بالاستجابة لصوت البر، ولذلك يقول القران المجيد :
” يا ايها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا ان الله
يحول بين المرء وقلبه، وانه اليه تحشرون “.
ولقد كان من حول رسول الله – صلوات الله وسلامه عليه – رجال استعدت نفوسهم
للحق، فلما جاءهم فرحوا به، وحرصوا عليه، واستجابوا له ، حتى تحدث عنهم القران المجيد
بمثل قوله : ” الذين استجابوا لله وللرسول ، من بعد ما اصابهم القرح، للذين
احسنوا منهم واتقوا اجر عظيم. الذين قال لهم الناس، ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم،
فزادهم ايمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل “.
ولقد كانت استجابتهم تظهر في مجالين اكثر من ظهورهما في غيرهما : المجال الاول هو
مجال البذل لما في ايديهم، تقربا الى الله، وايثارا لما عنده. والمجال الثاني هو مجال
التضحية بارواحهم، جهادا في سبيل الله، وطمعا في نعمة الشهادة لوجه الله : ” انما
المؤمنون الذين امنوا بالله ورسوله، ثم لم يرتابوا ، وجاهدوا باموالهم وانفسهم في سبيل الله
، اولئك هم الصادقون ” .
وهذا واحد منهم : انه الصحابي الوفي ، الباذل التقي ، المجاهد الزكي، ابوالدحداح ثابت
بن الدحداح بن نعيم الانصاري الذي كان جنديا مجهولا، ولذلك اختلفوا في اسمه ونسبه اختلافا
كثيرا ، حتى قال عنه الامام ابن عبد البر : ” لا اقف على اسمه،
ولا على نسبه، غير انه من الانصار حليف لهم ” .
وقد اسلم ابوالدحداح وحسن اسلامه، وتجلت فيه الاستجابة المخلصة لما يامر به ربه، او يدعو
اليه رسوله ، ومن شواهد ذلك ان الله تبارك وتعالى اراد ان يعد امته المؤمنة
لحياة العزة والكرامة والحرية ، فدعاهم الى الجهاد، وطالبهم من اجل ذلك بحسن الاعداد والاستعداد،
فقال لهم عز من قائل : ” وقاتلوا في سبيل الله، واعلموا ان الله سميع
عليم. من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، فيضاعفه له اضعافا كثيرة، والله يقبض ويبسط
، واليه ترجعون “.
وسمع ابوالدحداح لاول مرة هذا التوجيه الرباني الكريم، فسارع الى رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – يقول له : يا رسول الله ، ايريد الله تعالى منا القرض
؟
قال : نعم يا ابا الدحداح .
فقال : فداك ابي وامي يا رسول الله، ان الله يستقرضنا وهو غني عن القرض
؟ فقال النبي : نعم، يريد ان يدخلكم الجنة به .
قال ابوالدحداح : فاني اريد ان اقرض ربي قرضا يضمن لي به ولزوجتي ولصبيتي الجنة
؟ قال : نعم. قال : فناولني يدك يا رسول الله. فناوله يده ، فقال
: ان لي حديقتين ، احداهما بالسافلة ، والاخرى بالعالية، والله لا املك غيرهما، قد
جعلتهما قرضا لله تعالى. فقال له الرسول : اجعل احداهما لله، والاخرى دعها معيشة لك
ولعيالك.
قال ابوالدحداح : فاشهدك يا رسول الله، اني قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط
فيه ستمائة نخلة.
فقال النبي : اذن يجزيك الله به الجنة.
وانطلق ابوالدحداح الى زوجته، وهي مع صبيانها في الحديقة ، تدور حول النخل، فبشرها وانشد
يقول:
هداك ربي واهب الرشاد
الى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد
فقد مضى قرضا الى التناد
اقرضته الله على اعتمادي
بالطوع لا من ولا ارتداد
والبر لا شك فخير زاد
فارتحلي بالنفس وبالاولاد
ففرحت ام الدحداح ، وقالت : ربح بيعك ، بارك الله لك فيما اشتريت، ثم
انشات تجاوبه بقولها:
بشرك الله بخير وفرح
مثلك ادى ما عليه ونصح
فقد متع الله عيالي ومنح
بالعجوة السوداء، والزهو البلح
والعبد يسعى، وله ما قد كدح
طول الليالي، وعليه ما اجترح
واقبلت ام الدحداح على صبيانها تخرج ما في افواههم، وتنفض ما في اكمامهم حتى اقضت
الى الحائط الاخر، فقد اصبح ذلك ملكا لله، لا حق لهم في شيء منه.
ويروى ان النبي – صلى الله عليه وسلم – قال عند ذلك : ” كم
من غدق رداح، ودار فياح ، لابي الدحداح ” .
والغدق النخلة، ورداح : ثقيلة . والفياح : الواسعة. كما روي انه قال : ”
كم من غدق معلق – اي مدلى او مذلل – في الجنة لابي الدحداح” .
ويروى ان الرسول – عليه الصلاة والسلام – قال : ” من تصدق بصدقة ،
فله مثلاها في الجنة “.
فقال ابوالدحداح : يا رسول الله، ان لي حديقتين ، ان تصدقت باحداهما فان لي
مثليها في الجنة ؟
قال : نعم .
قال : وام الدحداح معي .
قال : نعم.
قال : والصبية معي ؟
قال : نعم .
فتصدق باحدى حديقتيه، ورجع فنادى على زوجته قائلا : يا ام الدحداح. قالت : لبيك
يا ابا الدحداح.
قال : اني جعلت حديقتي هذه صدقة ، واشتريت مثليها في الجنة ، وانت معي،
والصبية معي.
قالت : بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت .
ومضى ابوالدحداح في طريق الاسلام، يستجيب له ويعتز به، ويقدم من اجله كل ما يستطيع،
واختار الله له ارفع الدرجات، واصدق القربات، وهو بذل النفس في سبيل بارئها، وخالقها، فقد
خرج ابوالدحداح مجاهدا يوم احد، ثم راى الناس حينئذ وقد انتشروا وتبعثروا بسبب اشتداد الهول،
وشراسة القتال وهول المفاجاة، واشيع بينهم ان الرسول قتل، فلم يفقده كل ذلك صوابه او
ثباته، بل اقبل نحو الاعداء، وهو يهتف بين اخوته في الله وزملائه في الجهاد، ويقول
: يا معشر الانصار، الي الي انا ثابت بن الدحداح، ان كان محمد قد قتل
فان الله حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم، فان الله مظهركم وناصركم.
وكان ابا الدحداح بهذه الكلمات قد جعله القدر صدى لهدى الرحمن وصوت القران الذي اقبل
بعد ذلك يقول: ” وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل، افان مات
او قتل انقلبتم على اعقابكم ؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا، وسيجزي
الله الشاكرين. وما كان لنفس ان تموت الا باذن الله كتابا مؤجلا، ومن يرد ثواب
الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الاخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ” .
وتجمع حول ابي الدحداح عدد من الانصار، فجعل يهجم ويحمل معهم على الكافرين، ثم حملت
عليهم كتيبة كثيرة السلاح، فيها عمالقة المشركين يومئذ ، واصابت ابا الدحداح طعنة قاتلة، سقط
بسببها صريعا شهيدا، وقتل معه عدد من المهاجرين ، وكانوا اخر من استشهد في ذلك
اليوم العصيب. واقبل رسول الله – عليه الصلاة والسلام – فصلى على ابي الدحداح ودعا
له، ثم قال : ” كم من غدق (نخلة) معلق – او مدلى – في
الجنة لابي الدحداح
واذا كان هناك من اهل الجهل او الغفلة من ظن ان اباالدحداح قد فقد الحياة،
فان ذلك باطل من القول وزور، والله اصدق القائلين هو الذي يقرر الحق حين يقول
: ” ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله اموات، بل احياء، ولكن لا تشعرون
“