لا تدرج في اصل حرمة الخمر:
كل الايات التي وردت في الخمر-وان اختلف زمن نزولها- افادت تحريمه، غايته انها تتفاوت من
حيث التشديد على الحرمة فبعضها اكد في بيان الحرمة من البعض الاخر الا انها تشترك
في افادتها للحرمة، وهذا ما يعبر عن عدم التدرج في تشريع التحريم للخمر، فكان الخمر
حراما من اول الامر الا انه لما كانت ظاهرة التعاطي للخمر مستحكمة في الوسط الاجتماعي
انذاك اقتضت الحكمة الالهية ان يتم التدرج في معالجة هذه الظاهرة، فلم يكن الحد وهو
الجلد ثمانين جلدة مقررا في بداية التشريع لحرمة الخمر كما ان لزوم اتلافه وحرمة المعاوضة
عليه لم يكن مقررا في بداية تشريع الحرمة للخمر، فكان الناس يتعاطونه ويعاوضون عليه دون
ان يصدر امر من النبي (ص) بلزوم اتلافه وحرمة المعاوضة عليه حتى نزلت الاية من
سورة المائدة وهي قوله تعالى: ﴿يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس
من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾(1)، امر النبي (ص) باراقة اواني الخمر، وقال من شرب
الخمر فاجلدوه كما افادت ذلك رواية علي بن ابراهيم(2).
فالتدرج اذن لم يكن في اصل التحريم وانما كان في مستوى التاكيد على التحريم وفي
ترتيب الاثار على التحريم.
التدرج انما كان في مراتب الحرمة:
ولكي يتم التاكد من صحة ما ذكرناه نقول: ان اول اية نزلت في شان الخمر
بنحو التتنصيص هي قوله تعالى: ﴿يسالونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس
واثمهما اكبر من نفعهما…﴾(3)، وهذه الاية من سورة البقرة وهي سورة مدنية نزلت في بداية
الهجرة(4) وهي تامة الظهور في الحرمة حيث افادت ان في الخمر اثما كبيرا وهو تعبير
عن الحرمة ويؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والاثم والبغي بغير الحق…﴾(5).
واما قوله تعالى: ﴿يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل
الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر
والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل انتم منتهون﴾(6)، فهو من سورة المائدة وهي
اخر سور القران نزولا(7) على النبي (ص) ودلالتها على التحريم اكثر وضوحا وتشديدا حيث اشتملت
على التاكيد المستفاد من ﴿انما﴾ ووصفت الخمر بالرجس وانه من عمل الشيطان وان تعاطيه يقع
في سياق الارادة الشيطانية المنتجة لضلال من انساق اليها حتما كما قال تعالى: ﴿كتب عليه
انه من تولاه فانه يضله ويهديه الى عذاب السعير﴾(8)، كما ان الايتين اشتملت على الامر
باجتنابه صريحا وتصدت لبيان بعض المفاسد المترتبة على تعاطيه وهي ايقاعه لشاربه في العداوة والبغضاء
والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ثم ذيلت الايتين بقوله: ﴿فهل انتم منتهون﴾ وهو استفهام
توبيخي الغرض منه التعبير عن الاستياء من عدم انتهاء بعض المسلمين عن شرب الخمر رغم
النواهي التي كانت قد صدرت سابقا كالاية الواردة في سورة البقرة وكذلك ما كان يصدر
عن النبي (ص) من نهي عن شربه، ثم لم يقف التشديد على التحريم عند هذا
الحد بل جاءت الاية التي تلت الايتين لتؤكد على لزوم طاعة الله والرسول والحذر من
التولي والمخالفة لهما(9).
والمتحصل انه بعد اتضاح تمامية دلالة الاية الواردة في سورة البقرة على التحريم وبعد اتضاح
التفاوت في مستوى التاكيد والتشديد بين الاية الواردة في سورة البقرة وبين ما ورد في
سورة المائدة وان الفاصلة الزمنية بينهما طويلة يتبين ان التحريم كان ثابتا من اول الامر
وان التدرج انما كان في مستوى التاكيد وترتيب الاثار، وذلك كان رعاية للواقع الذي كان
عليه المسلمون، فليس من اليسير على الكثير منهم ان يتركوا شيئا كانوا قد اعتادوه وادمنوا
عليه، وبذلك يثبت ان من كان يشرب الخمر بعد نزول الاية من سورة البقرة على
احسن التقادير كان مذنبا الا ان ذنبه اشد لو كان قد شربها بعد نزول سورة
المائدة.
ويمكن ان نؤكد ما ادعيناه من ان التدرج في التاكيد كان لغرض معالجة الظاهرة بما
يتناسب مع تجذرها واستحكامها ببعض ما ورد في الروايات عن اهل البيت (ﻉ):
منها: ما رواه الكليني ايضا: “ان اول ما نزل في تحريم الخمر قوله عز وجل:
﴿يسالونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما…﴾ فلما
نزلت احس القوم بتحريم الخمر وعلموا ان الاثم مما ينبغي اجتنابه…
ثم نزلت اية اخرى ﴿يا ايها الذين امنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من
عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾(10)، فكانت اغلظ من الاولى والثانية اشد…”(11).