رفعت نانسي راسها من فوق ركبتيها .. وتاملت بعينين خاليتين من التعبير قطرات المطر الخفيفة
التي اخذت تهطل برفق بينما هي جالسة على الدرج الخلفي للمنزل الكبير الذي ولدت فيه
وعاشت ما يقرب العشرين عاما .. في حين كان الصوت العذب للشيخ المنبعث من داخل
المنزل وهو يتلو ايات قرانية يتردد عبر المكبرات الصوتية .. ترى .. هل السماء تبكي
عوضا عنها ؟ .. فقد جفت ماقيها وانعدمت قدرتها على البكاء .. واحتارت في امرها
.. هل تعتبر هذا قوة منها وصلابة في وضعها الصعب ؟ .. ام تلوم نفسها
وتعتبرها خيانة لذكرى ابيها الذي مات منذ يومين بازمة قلبية مفاجئة ؟
( نانسي )
لم تمنح حنان التي تعمل لدى العائلة منذ سنوات اي جواب .. الا ان الاخيرة
كانت تدرك تماما بان مخدومتها تستمع اليها جيدا .. تمتمت :- المقرئ يتساءل ان كان
بامكانه الانصراف .. فهو يتلو القران منذ ساعات وصالة الاستقبال فارغة
كبتت نانسي وخزة الالم في صدرها .. توفي والدها .. ولم يحضر اي انسان الى
جنازته .. اي من اصدقاءه او شركاءه ..او من الاشخاص الذين امضو حياتهم يتزلفون اليه
طلبا لرضاه .. اي من موظفيه او جيرانه .. لقد اكتشفوا جميعا بعد وفاته انهم
قد نسوا كل ما قدمه لهم في حياته من تضحيات وعطايا .. هو الان مجرم
في نظر الجميع لا يستحق حتى مجرد قراءة الفاتحة على قبره .. نهضت قائلة بحزم
:- فليستمر في القراءة حتى اطلب منه انا التوقف
دخلت الى البيت بخطوات حازمة .. لقد بكت كثيرا منذ سقط والدها ميتا .. بكت
حتى لم يعد لديها ما يكفي من الطاقة لمزيد من البكاء .. وبعدها ادركت بان
البكاء لن ينفعها .. ولن ينفع الشخصين الاخرين اللذين بقيا تحت عهدتها .. صعدت بخطوات
رشيقة الى الطابق العلوي .. لتصادف احدى الخادمات جالسة في الزاوية تبكي بمرارة
فصرخت فيها بعنف :- لا اريد بكاءا في هذا البيت .. هل تسمعين ؟
استدارت لتجد عددا من الخدم ينظرون اليها فصاحت :- ان رايت احدا منكم يبكي فساطرده
من هذا البيت في الحال
لم تحتمل نظرات الشفقة التي ارتسمت في اعينهم .. مما دفعها لان تدخل الى غرفتها
وتصفق الباب خلفها بعنف وتتساءل .. ترى هل يعلمون ؟
هل يعلمون بانهم سيغادرون هذا المنزل قريبا في جميع الاحوال ؟ بل انها هي وعائلتها
سيغادرون بلا رجعة ؟
سيغادرون البيت الذي عاشوا فيه لسنوات مستمتعين برفاهيته .. البيت الذي بناه والدها لاجل امها
عندما تزوجها منذ واحد وعشرين سنة ..
بدون وعي منها التقطت احدى زجاجات العطر الثمينة المرصوفة على منضدة الزينة .. والقتها على
الجدار بكل ما تملك من قوة غير مبالية بتحطمها .. وبالشظايا الصغيرة التي تناثرت في
جميع انحاء الغرفة .. نظرت الى نفسها في المراة لاهثة .. وذهلت امام الفتاة التي
وجدت نفسها تنظر الى صورتها .. بشرتها التي كانت دائما ذهبية متوردة .. كانت شاحبة
وصفراء .. وعيناها بلونهما الحشيشي الاخضر .. والتان كانتا دائما مشرقتين ومليئتين بالحياة .. كانتا
ذابلتين وقد احاطت بهما الهالات السوداء .. اغمضت عينيها بقوة .. لن ينفعها الحزن الان
.. ولن يساعدها الالم على متابعة حياتها .. لقد تعلمت الان بان الصديق الحقيقي هو
من يبقى وقت الازمات .. وقد اكتشفت الان بانها لم تمتلك يوما اصدقاء .. الكل
كان يتزلف اليها ويتقرب منها ومن عائلتها طمعا في مصالح مادية او اجتماعية .. ادركت
الان بانها لا يمكن ان تثق باحد … لانه لا وجود للقلب الصادق الوفي ..
عليها ان تعتمد على نفسها فقط .
خرجت من غرفتها .. ودخلت الى الغرفة المجاورة .. وما ان وقعت عيناها على المشهد
الماثل امامها حتى اختفت صلابتها .. وظهر التاثر في عينيها
كانت امها .. المراة الحسناء التي بالكاد تجاوزت الاربعين بقليل .. تجلس على سريرها الكبير
.. بينما دفنت فتاة في الخامسة عشرة راسها بين احضانها .. تبكي بمرارة
رفعت امها عينيها اليها .. فلاحظت نانسي ذبول وجهها الجميل .. والخصلات البيضاء التي تخللت
شعرها الفاتح اللون والتي لم تكن موجودة سابقا .. مدت يدها اليها فاندفعت نانسي تعانق
امها بدورها بقوة .. امضت ثواني وهي تستمد الحنان من صدرها الدافئ .. قبل ان
تعتدل قائلة :- اطمئني يا اماه .. سيكون ككل شيء على ما يرام
لقد كان امها صغيرة جدا عندما وقعت في حب سلمان راشد .. الشاب الطموح الوسيم
صاحب الطموح الكبير.. والذي نجح خلال فترة قصيرة بان يحقق ثروة طائلة .. وان يمنح
حبيبته الحسناء سلسلة العائلة العريقة .. الحياة المرفهة التي تستحقها .. وان يمنح طفلتيه كل
ما لم يستطع الحصول عليه في طفولته .. لقد كان ابا مثاليا .. وزوجا مثاليا
.. كان يقول لنانسي باستمرار ان كل هذه الاموال لا تساوي شيئا اذا لم يتمتع
الانسان بالكرامة والكبرياء .. وانها مهما حدث يجب الا تفرط بكبريائها .. وكان ان اتهم
سلمان راشد منذ اسابيع بتورطه باعمال غير قانونية .. وبان امواله كلها كانت نتيجة مشاريع
ممنوعة .. ففضل ان يلقى حتفه بازمة قلبية على حياة المذلة والسجن
نظرت الى وجه امها الحزين .. كانت تبدو اكبر من عمرها بسبب الحزن والمرض الذي
لم يتركها منذ اكتشفت حقيقة زوجها الحبيب ..وقعت عينا نانسي على صورة صغيرة لابيها الى
جانب السرير .. كان وسيما وبشوشا .. لم تكن الابتسامة تغادر وجهه .. تذكرت ملامحه
عندما اقتحمت الشرطة المنزل .. و واجهه الضابط بالتهم الموجهة اليه .. شحب وجهه ..
واختفت ابتسامته .. واثناء التحقيق .. قضى نحبه في السجن قبل حتى يحدد موعد المحاكمة
تمتمت الام :- توقفي عن البكاء يا لينا .. علينا ان نتحدث
رفعت لينا وجهها الصغير المغطى بالدموع.. وقد تهدل شعرها الفضي حول وجهها .. فكرت نانسي
بانها صغيرة جدا على هذا العذاب .. هتفت الام :- انتما ناضجتان الان وليس من
حقي ان اخفي عنكما اي شيء .. لقد كان والدكما رجلا رائعا …ابا صالحا ..
وقد احببناه بقوة واحبنا بجنون .. وبذل كل جهده لاسعادنا .. ولكن لا وجود للانسان
المثالي والكامل .. لقد ارتكب سلمان العديد من الاخطاء في حياته .. وقبل وفاته صارحني
بان كل الاتهامات التي وجهت ضده كانت صحيحة
اغمضت نانسي عينيها بقوة بينما سدت لينا اذنيها بكفيها وهي تصيح :- توقفي يا امي
.. ارجوك
ولكنها لم تتوقف بل اكملت بقوة :- من حقكما ان تعلما هذا .. وان تعرفا
بان والدكما قد سلك طريقا خاطئا ليمنحنا حياة مرفهة .. ولكن الحقيقة هي انني كنت
اتمنى لو اننا عشنا في غرفة حقيرة .. ولقينا من الفقر ويلاته على ان يحدث
ما حدث .. اريدكما ان تفهما هذا والا تنسياه على الاطلاق .. ان لقمة بالحلال
هي افضل من كل اموال الدنيا بالحرام
عادت لينا تبكي مجددا .. فاخذت الام نفسا عميقا وهي تقول :- بالرغم من كل
ما فعله .. اريد منكما ان تستمرا في حبه .. وفي تذكر انه كان اروع
اب في الكون .. وانه ما كان ابدا ليسبب لكما الاذى .. لقد فعل ما
فعله ظنا منه بانه يوفر لكما السعادة .. ولكنني متاكدة بانه لو عرف بما سيحصل
للعن نفسه الف مرة قبل ان يقوم به
صمتت لثواني قبل ان تقول :- كما تعلمان .. جميع ممتلكات والدكما قد صودرت ..
حتى هذا البيت لم يعد لنا .. وعلينا ان نغادره خلال فترة محددة .. لذا
.. اريد ان يكون لديكما فكرة عما ينتظرنا في المرحلة القادمة .. وهي لن تكون
سهلة على الاطلاق .. سنضطر خلالها للتخلي عن كل ما اعتدنا عليه من رفاهية ..
علينا ان نتوقع الاسوا
تمتمت نانسي :- لا تقلقي يا اماه .. لن نخذلك
ارتفعت طرقات مهذبة على الباب .. وصوت حنان يقول :- انسة نانسي .. السيد ماهر
في الاسفل يطلب مقابلتك
اعتدلت نانسي قائلة :- استاذنك يا امي .. ساقابل ماهر
تمتمت امها :- بلغيه تحياتي .. وشكري على زيارته
القت نانسي نظرة عابرة على نفسها في المراة .. ومررت اصابعها بسرعة بين خصلات شعرها
الذهبي الناعم .. ثم مطت شفتيها بضيق .. لكم تبدو بائسة
بينما هي تنزل الدرج .. تمكنت من رؤية ماهر .. صديقها وزميل دراستها يقف في
الصالة .. يتامل اللوحة الجدارية الكبيرة التي دفع والدها مبلغا كبيرا للحصول عليها
ماهر هو الصديق الحقيقي الذي بقي لها .. والذي لم يتركها منذ علم بقصة والدها
.. منذ عرفته اول مرة في سنتها الجامعية الاولى .. ادركت معدنه الثمين وصدقه ونبل
اخلاقه .. عندما راها تنزل .. استدار اليها وتناول كفها الرقيقة وشد عليها برفق قائلا
:- كيف حالك يا نانسي ؟
تمتمت :- بخير .. شكرا لك
دعته للدخول الى احدى القاعات الخالية .. فلاحظت محاولاته الجاهدة لتحاشي التقاء عينيهما خشية ان
ترى الاشفاق في عينيه .. ان كان هناك من يفهمها حقا فهو ماهر
سالها :- كيف حال السيدة مريم ؟
:- امي بخير .. ما زالت تحت تاثير الصدمة .. ولكنها بخير .. وتشكرك على
لطفك
ساد صمت طويل بينهما دون ان يجد احدهما ما يقال .. نظر ماهر حوله متاملا
الصالة الفاخرة الاثاث .. ومعالم الثراء الموزعة في جميع زواياها .. لابد انه هو الاخر
يعرف .. فالبلد كله يعرف بان املاك سلمان راشد اللص الكبير قد صودرت جميعها ..
تمتمت فجاة :- ساعود للمواظبة على الدوام في الكلية
اتسعت عيناه بدون تصديق .. لقد امتنعت عن الذهاب الى الجامعة منذ القي القبض على
والدها .. وتمزيق الصحف لسيرته شر تمزيق .. قال بقلق :- هل انت متاكدة ؟
قالت بجفاف :- ما من داعي لبقائي في البيت .. هل تنتظر مني ان اعتزل
الناس الى الابد ؟ لقد حان الوقت لان اتابع حياتي .
بدا التفكير العميق في عينيه البنيتين قبل ان يقول :- انصحك بان تعيدي النظر في
قرارك هذا يا نانسي
عقدت حاجبيها :- ماذا تعني ؟
قال بهدوء :- ارى انه من الافضل ان تنتظري لبعض الوقت قبل العودة الى الجامعة
.. حتى ينسى الناس قصة والدك على الاقل
شعرت بغصة الم تخنقها .. لطالما كان ماهر صريحا .. صريحا بشكل مؤلم احيانا ..
ولكن ربما هذا ما يدفعها للثقة به .. انه لا يعرف الزيف او الكذب ..
يقول فورا ما يفكر به دون اهتمام لاراء الاخرين
اوضح كلامه قائلا :- يجب ان تعرفي حقيقة الوضع الان في الكلية يا نانسي ..
لا سيرة للطلاب او الاساتذة الا قصة والدك .. ان موجة من الجنون تجتاحهم ..
لا تنسي بان اعداءك كثر في الكلية
نعم .. هي تعرف هذا جيدا .. لطالما كانت نانسي سلمان راشد الاسم الاكثر شهرة
في الكلية .. لقد كانت الطالبة الاكثر شعبية بشخصيتها القوية وغرورها الذي يميزها .. لطالما
كانت علاقتها بزملائها علاقة تفوق واستعلاء .. لم لا ؟ .. لقد كانت دائما الافضل
.. الاجمل .. الاكثر اناقة ..الاكثر تفوقا في الدراسة .. كما كانت علاقتها بالاساتذة وثيقة
بسبب علمهم باهمية والدها .. الكل كان حريصا على رضاها .. طبعا .. ليس كلهم
تمتمت بحنق :- هل تعني بانني يجب ان اهرب واختبئ عن الناس كالفار الجبان ؟
اقسم على ان هذا ما يرغبون جميعا بحصوله .. ولكن لا .. لست انا من
تهرب من واقعها .. ساعود الى الكلية كما كنت وافضل .. لاثبت للجميع بانني مهما
حدث فساظل نانسي راشد .. ولن اسمح لاي منهم بان يتجرا علي بكلمة
تنهد ماهر وهو يقول :- اعرف بانني لن استطيع تغيير رايك يا نانسي .. ولكن
تاكدي بانني ساقف دائما الى جانبك
تمتمت :- اعرف هذا يا ماهر .. واشكرك على اهتمامك بي
صافحته بقوة عندما نهض ليغادر .. التقت عيناهما وهو يقول :- هل اراك في الغد
اذن ؟
ابتسمت قائلة :- في مكاننا المعتاد
منحها ابتسامة تقدير لشجاعتها قبل ان يغادر المنزل .. بينما القت هي نفسها على المقعد
وهي تزفر بقوة
هي تعلم جيدا بان ما ينتظرها في الغد ليس سهلا .. ليس سهلا بالمرة
ولكنها لن تكون نانسي راشد لو لم تثبت للجميع بانها ليست بحاجة لدعم والدها كي
تنتصب شامخة في وجه الصعاب
- رواية عندما تنحني الجبال فيس بوك
- رواية عندما تنحني الجبال كاملة
- روايه عندما تنحني الجبال