كل ليلة اقرا قصة قصيرة لصغيرتي رغد قبل النوم . و هذه هي اخر ليلة
تباتها رغد في غرفتي بعد ثلاث سنوات من قدومها للمنزل .
ثلاث سنوات من الرعاية و الدلال و المحبة اوليتها جميعا لصغيرتي ، كاي ام او
اب !
انها الان في السادسة و قد الحقناها بالمدرسة هذا العام و كانت في غاية السعادة
!
في كل يوم عندما تعود تخبرني بعشرات الاشياء التي شاهدتها او تعلمتها في المدرسة .
و في كل يوم بعد تناولها الغذاء اتولى انا تعليمها دروسها البسيطة
و قد كانت تلميذة نجيبة !
بعد الانتهاء من الدروس تاخذ صغيرتي دفتر التلوين الخاص بها و علبة الالوان ، و
تجلس على سريرها و تبدا بالتلوين بهدوء
تقريبا بهدوء !
” وليد لون معي ! ”
لقد كنت شارذا و انا اتاملها و اتخيل انني و منذ الغد لن اجد سريرها
في تلك الزاوية و استمع الى ( هذيانها ) و تحدثها الى نفسها قبل النوم
!
” و ليد لون معي ! ”
هذه المرة انتبهت الى صوتها الحاد ، نظرت اليها و ابتسمت ! لقد كنت كثيرا
ما الون معها في هذا الدفتر او غيره ! و هي تحلق سعادة حينما تراقبني
و انا الون !
اطفال … فقط اطفال !
” حسنا ”
قلت ذلك و هممت بالنهوض من على سريري و التوجه اليها ، و لكنها و
بسرعة قفزت هي و دفترها و علبة الوانها و هبطت فوق سريري في ثانيتين !
بدات كالعادة تختار لي الصفحة التي تريد مني تلوينها و قد كانت رسمة لفتاة صغيرة
تحمل حقيبة المدرسة !
” صغيرتي … لم لا تلونين هذه ؟ فهي تشبهك ! ”
قلت لها ذلك ، فابتسمت و اخذت تقلب دفترها بحثا عن شيء ما ، ثم
قالت :
” لا يوجد ولد يشبهك ! سارسمك ! ”
و امسكت بالقلم و اخذت ( ترسمني ) في احدى الصفحات … و كم كانت
الرسمة مضحكة ، و لاحظت انها رسمت خطا طويلا اسفل الانف !
” ما هذا ؟؟ ”
” شارب ! ”
” ماذا !؟ و لكن انا لا شارب لدي ! ”
” عندما تكبر مثل ابي سيكون لديك شارب طويل هكذا لانك طويل ! ”
ضحكت كثيرا كما ضحكت هي الاخرى !
ان طولي قد ازداد بشكل ملحوظ في الاونة الاخيرة ، و يبدو انني ساصبح اطول
من والدي !
قمنا بعد ذلك بتلوين الصورتين ( رغد الصغيرة ، و وليد ذي الشارب الطويل )
!
من كان منا يتوقع … ان هاتين الصورتين ستعيشان معنا … كل ذلك العمر …؟؟؟
عندما حل الظلام ، قمت بنقل سرير رغد و اشيائها الاخرى الى غرفتها الجديدة .
و كانت صغيرة و مجاورة لغرفتي .
الصغيرة كانت مسرورة للغاية ، فقد اصبح لها غرفتها الخاصة مثل دانة و لم يعد
بمقدور دانة ان ( تعيرها ) كما كانت تفعل دائما .
العلاقة بين هاتين الفتاتين كانت سيئة !
بالنسبة لي ، كنت حزينا بهذا الحدث … فانا ارغب في ان تبقى الصغيرة معي
و تحت رعايتي اكثر من ذلك … انها تعني لي الكثير …
انتهينا انا و امي من ترتيب الاشياء في الغرفة ، و رغد تساعدنا . قالت
امي بعد ذلك :
” و الان يا رغد … هاقد اصبح لديك غرفة خاصة ! اعتني بها جيدا
! ”
” حسنا ماما ”
و جاء صوت دانة من مكان ما قائلة :
” لكن غرفتي هي الاجمل . هذه صغيرة و وحيدة مثلك ”
جميعنا استدرنا نحو دانة ، و بعين الغضب . فهي لا تترك فرصة لمضايقة رغد
الا و استغلتها .
” لكنني لست وحيدة ، و لن اشعر بالخوف لان وليد قريب مني ”
” لكن وليد ليس امك و لا اباك و لا اخاك ! اذن انت وحيدة
”
هذه المرة والدتي زجرت دانة بعنف و امرتها بالانصراف . لقد كانت لدي رغبة في
صفع هذه الفتاة الخبيثة لكنني لم اشا ان ازيد الامر تعقيدا .
انني ادرك ان الامور تزداد سوءا بين دانة و رغد ، و لا ادري ان
كان الوضع سيتغير حالما تكبران …
اعتقدت ان الامر قد انتهى في وقته ، الا انه لم ينته …
بينما كنت غاطا في نومي ، سمعت صوتا ايقظني من النوم بفزع …
عندما فتحت عيني رايت خيال شخص ما يقف الى جانبي … كان الظلام شديدا و
كنت بين النوم و الصحوة … استيقظت فجاة و استطاعت طبلة اذني التقاط الصوت و
تمييزه …
كانت رغد !
نهضت ، و انرت المصباح المجاور ، و من خلال انارته الخفيفة لمحت ومض دموع
تسيل على خد الصغيرة …
مددت يدي و تحسست وجهها الصغير فبللتني الدموع …
” رغد ! ما بك عزيزتي ؟ ”
قفزت رغد الى حضني و اطلقت صرخات بكاء قوية و حزينة … انني لم ار
دموع غاليتي هذه منذ امد بعيد … فكيف لي برؤيتها بهذه الحال ؟؟
” رغد … اخبريني ماذا حدث ؟ هل رايت حلما مزعجا ؟؟ ”
اندفعت و هي تقول كلماتها هذه بشكل مبعثر و مضطرب … و بمرارة و حزن
عميقين :
” لماذا ليس لدي ام ؟
لماذا مات ابي ؟
هل الله لا يحبني لذلك لم يعطني اما و لا ابا ؟
هل صحيح ان هذا ليس بيتي ؟
اين بيتي اذن فانا اريد ان يصبح لدي غرفة كبيرة و جميلة مثل غرفة دانة
”
طوقت الصغيرة بذراعي و جعلت امسح راسها و دموعها و اهدئ من حالتها
لم اكن اتخيل ان مثل هذه التساؤلات تدور في راس طفلة صغيرة في السادسة من
العمر …
بل انها لم تذكر لي شيئا كهذا من قبل رغم ثرثرتها التي لا تكاد تنتهي
حين تبدا …
” صغيرتي رغد ! ما هذا الكلام ! من قال لك ذلك ؟ ”
” دانة دائما تقول هذا … هي لا تحبني … لا احد يحبني ”
شعرت بالغيظ من اختي الشقية ، في الغد سوف اوبخها بعنف . قلت محاولا تهدئة
الصغيرة المهمومة :
” رغد يا حلوتي … دعك من دانة فهي لا تعرف ما تقول ، سوف
اوقفها عند حدها . ابي و امي هما ابوك و امك ”
قاطعتني :
” غير صحيح ! لا ام و لا اب لدي و لا احد يحبني ”
” ماذا عني انا وليد ؟ الا احبك ؟ اعتبريني امك و اباك و كل
شيء ”
توقفت رغد عن البكاء و نظرت الي قليلا ثم قالت :
” و لكن ليس لديك شارب ! ”
ضحكت ! فافكار هذه الصغيرة غاية في البساطة و العفوية ! اما هي فقد ابتسمت
و مسحت دموعها …
قلت :
” حين اكبر قليلا بعد فسيصبح لدي شاربان طويلان كما رسمت ! ا نسيت !؟
”
ابتسمت اكثر و قالت :
” و هل ستشتري لي بيتا كبيرا فيه غرفة كبيرة و جميلة تخصني ؟ ”
ضحكت مجددا … و قلت :
” نعم بالتاكيد ! و تصبحين انت سيدة المنزل ! ”
الصغيرة ابتسمت برضا و عانقتني بسرور :
” انا احبك كثيرا يا وليد ! و حين اكبر ساخذك معي الى بيتي الجديد
! ”
~ ~ ~ ~ ~ ~ ~ ~
اللعب هو هواية الاطفال المفضلة على الاطلاق ، و لانني ( وليد الكبير ) و
لان دانة هي ( الطرف المعادي ) فان رغد لم تجد من تلعب معه في
بيتنا هذا غير سامر !
كثيرا ما كانا يقضيان الساعات الطوال باللهو معا ، ربما كان هذا متنفسا جيدا للصغيرة
.
عندما كانت رغد تسكن غرفتي ، كانت كلما بقيت في الغرفة لسبب او لاخر،اتت هي
الاخرى و عكفت على دفتر تلوينها بسكون …
كنت استذكر دروسي و القي عليها نظرة من حين لاخر … و كان ذلك يسعدني
…
بعد ان استقلت في غرفتها ، لم اعد اراها معي …
كانت كثيرا ما تقضي الوقت الان مع سامر في اللعب !
في احد الايام ، عدت من المدرسة ، و حين دخلت البيت وجدت الصغيرة تشاهد
التلفاز …
” رغد ! لقد عدت ! ”
و فتحت ذراعي ، فهي معتادة ان تاتي لحضني كلما عدت من المدرسة ، كانها
تعبر عن شوقها و افتقادها لي …
ابتسمت الصغيرة ثم قفزت قاصدة الحضور الي ، و في نفس اللحظة دخل شقيقي سامر
الى نفس الغرفة و هو يقول :
” اصلحته يا رغد ! هيا بنا ”
و بشكل فاجاني و لم اتوقعه ، استدارت الى سامر و ركضت نحوه ، و
غادرا الغرفة سويا …
ذراعاي كانتا لا تزالان معلقتين في الهواء … بانتظار الصغيرة …
نظرت من حولي اتاكد من ان احدا لم ير هذا … قد يكون موقفا عاديا
لكنني شعرت بغيط و خيبة لحظتها … ما الذي يشغل رغد عني ؟؟
لحقت بالاثنين ، فرايتهما يركبان دراجة سامر التي يبدو ان خللا كان قد اصابها مؤخرا
و اصلحه سامر قبل قليل …
كانت رغد في غاية السرور و هي تجلس على مقعد خلفي ، و سامر ينطلق
بدراجته الهوائية مسرعا …
ذهبت الى غرفتي و استلقيت على سريري و اخذت افكر …
مؤخرا ، ظهرت امور عدة تشغل الصغيرة … كالمدرسة و الواجبات المدرسية و صديقاتها الجدد
… و دفاتر تلوينها الكثيرة … و اللعب مع سامر !
طردت الافكار التي استتفهتها فورا من راسي و انصرفت الى امور اخرى …
انها السنة الاخيرة لي في المدرسة الاعدادية و والدتي تعمدت ابعاد رغد عني قدر الامكان
لاتفرغ لدراستي .
رغد … رغد … رغد !
لماذا لا استطيع طردها الان من راسي ؟؟ انها طفلة مزعجة لا تحب غير اللعب
و العناية بها كانت مسؤولة كبيرة و مضجرة القيت على عاتقي و ها انا حر
اخيرا !
في الواقع ، ظل التفكير بهذه الصغيرة يشغلني طوال ذلك اليوم … لم استطع التركيز
في الدراسة ، و قبيل غروب الشمس قررت القيام بجولة في الشارع على الاقدام ،
علني اطرد رغد من دماغي …
الجو كان لطيفا و نسماته عليلة و قد استمتعت بنزهتي الصغيرة …
التقيت في طريقي بشخص ابغضه كثيرا ! انه عمار …
عمار هذا هو الابن الوحيد لاحد الاثرياء ، و هو زميلي في المدرسة ، ولد
بغيض مستهتر سيئ الخلق ، معروف و مشهور بين الجميع بانحرافه و فساده … و
كان اخر شيء اتمنى ان التقي به و انا في مزاجي العكر هذا اليوم !
” وليد ؟ تتسكع في الشوارع عوضا عن الدراسة !؟ لسوف افضحك غدا في المدرسة
”
قال لي هذا و اطلق ضحكة قوية و بغيضة ، اوليته ظهري و ابتعدت متجاهلا
اياه
قال :
” انتظر ! لم لا تات معي نلهو قليلا ؟ و اعدك بان تنجح رغم
انف الجميع ! مثلي ”
استدرت الى عمار و قلت بغضب :
” حل عني ايها البغيض ! لا يشرفني التحدث الى شخص مثلك ! ايها المنحرف
الفاسد ”
لا ادري ما الذي دفعني لقول ذلك ، فانا لم اعتد توجيه مثل هذا الكلام
لاي كان …
و لكني كنت مستاءا …
عمار شعر بغيظ ، و سدد نحوي لكمة قوية موجعة و تعاركنا !
منذ ذلك اليوم ، و انا و هو في خصام مستمر ، هو لا يفتا
يستفزني كلما وجد الفرصة السانحة لذلك ، و انا اتجاهله حينا و اتعارك معه حينا
اخر …
و الامر بيننا انتهى اسوا نهاية … كما سترون …
في طريق عودتي للبيت ، مررت باحدى المكتبات ، و وجدت نفسي ادخلها و افتش
بين دفاتر تلوين الاطفال ، و اشتري مجموعة جديدة … من اجل رغد
انني ساعترف ، بانني فشلت في ازاحتها بعيدا عن تفكيري ذلك اليوم … لقد كانت
المرة الاولى التي تترك فيها ذراعي معلقين في الهواء … و تذهب بعيدا
حين وصلت الى البيت ، كانت رغد في حديقة المنزل ، مع سامر و دانة
، كانوا يراقبون العصفورين الحبيسين في القفص ، و اللذين احضرهما والدي قبل ايام …
كانت ضحكاتها تملا الاجواء …
كم هي رائعة هذه الطفلة حين تضحك !
و كم هي مزعجة حين تبكي !
اعتقدت انني لن اثير انتباهها فيما هي سعيدة مع شقيقي و العصفورين … هممت بالدخول
الى داخل المنزل و سرت نحو الباب … و انا ممسك بالكيس الصغير الذي يحوي
دفاتر التلوين …
” وليد ” !
وصلني صوتها الحاد فاستدرت للخلف ، فاذا بها قادمة تركض نحوي فاتحة ذراعيها و مطلقة
ضحكة كبيرة …
فتحت ذراعي و استقبلتها في حضني و حملتها بفرح و درت بها حول نفسي بضع
دورات …
” صغيرتي … جلبت لك شيئا تحبينه ! ”
نظرت الى الكيس ثم انتزعته من يدي ، و تفقدت ما بداخله
اطلقت هتاف الفرح و طوقت عنقي بقوة كادت تخنقني !
بعدها قالت :
” لون معي ! ”
ابتسمت برضا بل بسعادة و قلت :
” امرك سيدتي ! ”
اعتقد … بل انا موقن جدا … بانني اصبحت مهووسا بهذه الطفلة بشكل لم اكن
لاتصوره او اعمل له حسابا …
و ساجن … بالتاكيد … فيما لو حدث لها مكروه … لا قدر الله ….
- انت لي
- رمزيات اخذت فكرة سيئة