«بوسع الانسان ان يقاوم اشتياقه لمن يحب، لكن لا يمكنه ان يقاوم الشفقة عليه» كانت
هذه الجملة بمثابة الحد الفاصل لسنوات من المعاناة عاشها زوجان لم يكن بوسعهما ان يعيشا
معا ولا ان يحتملا الم الفراق، وفي كل مرة يقع الانفصال تعود المياه لمجاريها المسدودة
مدفوعة باسباب خارجية لم تكن الزوجة تعيها حتى جلست امام المستشارة النفسية تحكي لها انها
هذه المرة كانت قد اختارت الطلاق عن قناعة تامة وتجاوزت شوقها الى زوجها وافتقادها لبيتها
حتى علمت بانه على وشك اشهار افلاسه واغلاق شركاته بالاضافة الى حالته الصحية التي تدهورت
وحالتها النفسية التي انتكست.
كانت على ما يبدو تلتمس عذرا امام نفسها للعودة ثم تعود وتفكر فيما سيتبع ذلك
وتتردد لكن ما ان سمعت الجملة اعلاه حتى شهقت وكانها استيقظت من كابوس مزعج وقفزت
من مقعدها وصافحت المستشارة النفسية وشكرتها قائلة: «لقد حسمت القرار»، فبادرتها المستشارة بقولها: «لست متاكدة
ماهو قرارك ولكن ما يهمني هو ان تتخذي القرار السليم بعد ان تصلي للتعريف الصحيح
لمشاعرك اولا» فاجابتها: «حبي له كان اعتيادا، وشوقي اليه كان ادمانا لنمط حياتي السابقة وخوفا
من بداية جديدة، وغيرته علي كانت حب امتلاك، اما ازمته الصحية فلم تكن بسبب الم
فراقي بل كانت بسبب ضياع امواله، الواقع الوحيد هو انني كنت اشفق عليه في كل
مرة دون ان ادرك بان الاحساس الذي يعتريني ويدفعني للعودة هو الشفقة». وصدر حكمها الاخير
على حياتها الزوجية بالطلاق لعدم اكتفاء ادلة استئناف الحياة معه وعدم وجود محفزات لتقديم التنازلات
كالاطفال مثلا.
استمعت الى تلك القصة وادهشتني فكرة «تعريف المشاعر»، فلا توجد قواميس لتفسير مفرداتها ولا دليل
لتحديد الاعراض المصاحبة لكل احساس مع توضيح الفوارق بينها ولا مجس للكشف عن حقيقة المشاعر
وصدقها ولم يكن بامكان المستشارة المتخصصة نفسها بالرغم من خبرتها ان تجزم بتعريف محدد لمشاعر
تلك السيدة التي بدورها كانت تخلط بين الحب والشوق والشفقة والادمان والتضحية فظلت تتخذ قرارات
خاطئة مستندة الى تعريف خاطئ لسنوات، مما يؤكد اهمية نشر ثقافة خاصة هي ثقافة المشاعر
التي تختلف عن الثقافة العامة كونها تتطلب تنمية مهارات اتصال الانسان بعقله الباطن.
الوعي في هذا المجال الغامض اعتقد انه يبدا باستيعاب حقيقة علمية هامة تقول ان (افكارك
تصنع مشاعرك، ومشاعرك تصنع تصرفاتك). وهي حقيقة تدحض الاعتقاد الشائع بان المشاعر قد تسبق التفكير.
فالواقع ان الافكار التي نحملها او نختزنها هي التي تحرك مشاعرنا باتجاه دون غيره، وبالتالي
لا توجد مشاعر مجنونة ولكن يوجد وراءها -اذا ضلت الطريق- افكار بحاجة الى الاحتواء والتقويم.
اما الافكار فبعضها يطفو على سطح الوعي لنجد الانسان يعرفها ويرددها وينشغل بالتفكير فيها، بينما
البعض الاخر يسكن في اللاوعي كترسبات من تجارب الماضي وربما اوهام واضغاث احلام تصنعها الروايات
الواقعية والخيالية التي قد تتوق النفس لتمارس دور بطولتها او يسقطها الانسان على نفسه وعلى
حياته والاشخاص المحيطين به دون ان يدري، ولا زلت اذكر تضحية جليلة قامت بها احدى
السيدات لتقف الى جانب زوج لم تحبه يوما ولم يحسن اليها ابدا، فقالت في مشهد
درامي حزين وبكل فخر واعتزاز: «انا سعيدة بتضحيتي واشعر انني كغادة الكاميليا» ليخرجني ذلك التشبيه
من سياق تعاطفي معها فاناشدها ان تبحث لنفسها عن دور اخر تلعبه في الحياة ذلك
ان غادة الكاميليا كانت غانية!!.
اذا امنا بان الافكار تصنع المشاعر ندرك بان المشاعر هي ردود افعال طبيعية لافكار الوعي
التي نعرفها، واللاوعي الذي يرسل اشارات قد تكون مضللة للمشاعر، والامر ليس بحاجة الى تحليل
وتفسير وتعبير وطبيب او مستشار نفسي يقوم بكل ذلك ففي الواقع المطلوب هو التامل الذي
يمنح الانسان فرصة للاتصال بافكاره ومشاعره واختبار صحتها.
تبقى المعضلة التي حيرتني وهي الكيفية التي تمكنت بواسطتها صاحبة القصة الاولى من اكتشاف ان
احساسها هو عبارة عن شفقة واذ تقول: «نزعت من المشهد الحال الذي ال اليه فكان
قراري الا اعود، وادركت ان ما كنت احمله له في تلك اللحظة شفقة ستنتهي صلاحيتها
بمجرد تجاوزه للازمة ومعاودته لسلوكه السابق وهذا ما اضعت سنوات عمري فيه» وتضيف: «لقد اكتشفت
امرا اخر عندما اختليت بنفسي وبدات افسر المشاعر التي احملها له فانزع واحدة واختبر الاخرى
حتى اكتشفت ان ما جمعنا لم يكن حبا ولكن كان في حياة كل منا صفحة
من سؤال واحد هو (املا الفراغ العاطفي التالي بالاسم المناسب) كتب اسمي عليها وكتبت اسمه
عليها واتضح ان الاجابة خاطئة لاننا لم نستذكر دروس الحياة الزوجية قبل ان نتاهل للاختبار،
وان كنت قد تعلمتها واحترمتها لاحقا فبذلت الجهد لتستمر الحياة بيننا الا انه تمسك بان
اظل اسما على هامش صفحة حياته التي يملاها بالاخطاء ويرفض تصحيحها».
- تعريف المشاعر