قال حذيفة بن اليمان رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم:
“تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودا عودا. فأى قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء،
وأى قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا
كالكوز مجخيا. لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض
لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض”.
رواه مسلم
الشرح
القلوب شيئا فشيئا كعرض عيدان الحصير، وهى طاقاتها شيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها
إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب السفنج الماء فتنكت فيه نكتة
سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله “كالكوز
مجخيا” أى مكبوبا منكوسا، فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان
به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، وربما
استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق
باطلا والباطل حقا، الثانى: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له.
وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها
وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.
والفتن التى تعرض على القلوب هى أسباب مرضها، وهى فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغى
والضلال، فتن المعاصى والبدع، فتن الظلم والجهل فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد
العلم والاعتقاد.
وقد قسم الصحابة رضى الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة، كما صح عن حذيفة بن
اليمان:
“القلوب أربعة: قلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف، فذلك قلب الكافر،
وقلب منكوس، فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمى، وقلب تمده مادتان: مادة
إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما”.
فقوله “قلب أجرد” أى متجرد مما سوى الله ورسوله، فقد تجرد وسلم مما سوى الحق.
و”فيه سراج يزهر” وهو مصباح الإيمان: فأشار بتجرده إلى سلامته من شبهات الباطل وشهوات الغى،
وبحصول السراج فيه إلى إشراقه واستنارته بنور العلم والإيمان. وأشار بالقلب الأغلف إلى قلب الكافر؛
لأنه داخل فى غلافه وغشائه، فلا يصل إليه نور العلم والإيمان، كما قال تعالى، حاكيا
عن اليهود:
{وقالوا قلوبنا غلف} [البقرة: 88]. وهو جمع أغلف، وهو الداخل فى غلافه، كقلف وأقلف، وهذه
الغشاوة هى الأكنة التى ضربها الله على قلوبهم، عقوبة لهم على رد الحق والتكبر عن
قبوله. فهى أكنة على القلوب ووقر فى الأسماع، وعمى فى الأبصار، وهى الحجاب المستور عن
العيون فى قوله تعالى:
{وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم
أكنة أن يفقهوه وفى آذانهم وقرا} [الإسراء: 45-46]. فإذا ذكر لهذه القلوب تجريد التوحيد وتجريد
المتابعة، ولى أصحابها على أدبارهم نفورا.
وأشار بالقلب المنكوس- وهو المكبوب- إلى قلب المنافق، كما قال تعالى:
{فما لكم فى المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا} [النساء: 88]. أى نكسهم وردهم فى
الباطل الذى كانوا فيه، بسبب كسبهم وأعمالهم الباطلة وهذا شر القلوب وأخبثها، فإنه يعتقد الباطل
حقا ويوالى أصحابه، والحق باطلا ويعادى أهله، فالله المستعان.
وأشار بالقلب الذى له مادتان إلى القلب الذى لم يتمكن فيه الإيمان ولم يزهر فيه
سراجه، حيث لم يتجرد للحق المحض الذى بعث الله به رسوله، بل فيه مادة منه
ومادة من خلافه، فتارة يكون للكفر أقرب منه للإيمان، وتارة يكون للإيمان أقرب منه للكفر،
والحكم للغالب وإليه يرجع.
- تعرض الفتن على القلوب
- تعرض الفتان على القلوب كعرض
- تعرض الفتن على القلوب كالحصير